محمد نعيم فرحات/ القدس العربي
يولد بعض الناس ليكونوا، ويختارون أن يكونوا مختلفين، يخرجون عن كل نص وطوق، بحثا عن الانعتاق، وما هو أجمل، يعيشون طلقاء يحررون أنفسهم من كل قيد موروث أو مبني، يرسمون نصهم من ظله الأول حتى ما بعد الرمق الأخير، برهافة وعزم وبهاء واختلاف ويقدمونه للناس، كدعوة ووعد. زياد الرحباني بنفسه وفي زمنه، كان واحدا من هؤلاء، شيد بديله الشجاع بكل طاقاته الممكنة وأكثر، ومضى في الحياة بكل ما كان لديه من عزم وفوضى، لم تكن بحاجة لمن ينظمها، لأنها كانت تتولى تنظيم نفسها، ولو بعد حين من الانفلات، على نحو فادح أحيانا.
عن إدراك، وبعناية ورشاقة، حوَل زياد رحباني، السخرية من لحظة عابرة تُرضِي فاعلها لوهلة كان الواقع يستوعبها، إلى فكرة وثقافة وبديل، وصفّى حسابه على طريقته البديعة: مع الحياة التي على عواهنها، وتردي العالم أمام جدارته باسمه ومعناه، وسوء صنيع الناس مع أنفسهم، ومع نفسه أيضا، فعل كل ذلك ببساطة، وامتلاء وبذكاء، صريح، شجاع، مدهش، مغرٍ، مثير وجاذب على نحو لا يمكن رفضه. قليلون هم، القادرين على استخلاص حكمة الحياة وتحمل أوزارها، والذهاب نحو تكوين رؤية وإبداع بديل، هؤلاء هم الذين يحظون بالمتاعب، لكنهم يعودون إلى أنفسهم، ببعض الرضا عما فعلت أياديهم، فيما يغضبون منه وعليه، ويواصلون سعيهم والخطى لاستئناف المواجهة مع البشاعة والرداءة واليأس والبؤس وشقاء العالم.
شاءت أقدار زياد ان يترعرع في ظلال قامات سكنت في أعالي تاريخ الجمال: فيروز، عاصي ومنصور الذين أودعوا نفوس الناس ووعيهم ووجدانهم عهدة عند صوتها وأسراره المدهشة والعوالم التي شيدها وأهداها. الفتى المتمرد منذ كان في مهد أمه وأبيه صبيا على ما تروي سيرته وخياراته، تعزز بالظلال التي تركها أهله ما كان بوسعه فعل ذلك، لكنه لم يألف العيش في تخومها طويلا، على ما كان فيها من غنى رمزي وسعة وكفاية، ودون أن يغلق الباب وراءه على الظلال، صعد من هناك ليغنى نشيده الخاص في المدى ويضيف لمسته، ثم عاد اليها، محمولا على ظل كثيف هو ظل زياد، عثر فيه على بعض نفسه وبعض ما كان يريد قوله، لكن الناس كانوا يعثرون على الكثير من أنفسهم فيما قاله ورسمه وفيما كان يعد بقوله ويبشر به.
لم يُبقِ زياد الرحباني عصىً لم يشق الطاعة عليها، ولم نسمع أنه قد طرق باب أحد، لكن رأينا وسمعنا كيف صفق كل الأبواب الفعلية والمجازية، على ما فيها وعلى من فيها، كي يستفيقوا ويستخرجوا من غياهب نفوسهم الرهان الحالم، ويطلقونه في أفق الحياة ووعدها الصعب، وتوليده بقوة الأمل والفعل البهي. ومثل كل المسكونين بالكرامة والحرية والانعتاق، توسل بصبر دؤوب كل ما وقعت عليه روحه ويداه، من قول وصوت وأدوات وتعبير وحركة كي ينهض وينهضوا ويمضون ويمضي..
زياد الرحباني الذي تعود على أن يصغي إلى نفسه دائما التي قلما خذلته، سار في الدروب التي قطعها مستسلما لسجايا، كانت تعرف كيف تروض نفسها وتصعد كي تفصح وتقول. كريم الوعي والأصل والندى، المشغول حد التوتر بتوليد زمن آخر من راهنه الصاخب، كتب فصله على نحو ملحمي بالغ البهاء والشجاعة ومضى، لم يكن معنيًا بسماع صوته بمقدار ما كان مشغولا بتجليات صداه وتردداته وظلاله التي يرسمها الصوت في أعماق روحه، وأرواح الآخرين وفي صفحات الزمن. وكالعادة، رَاسِمُ الظلِ لا يفنى، إنه يرتقي فيقوم ظلا، لا أقل.