جريدة الأخبار
في عام 2021 تغيّر شكل العلاقات التجارية بين لبنان والسعودية ليصبح أُحادياً. امتنعت السعودية عن استقبال السلع اللبنانية وأصبح لبنان مستقبِلاً لصادراتها، ما أدّى ذلك إلى مضاعفة العجز التجاري لمصلحة السعودية بنحو 8 مرات. كان معدّل العجز بين عامَي 2016 و2021 نحو 108 ملايين دولار سنوياً، ثم ارتفع إلى 885 مليون دولار في عام 2024. وبهذه العملية كانت السعودية تمتصّ جزءاً مهمّاً من الدولارات التي تدخل إلى لبنان بلغ مجموعها نحو مليارَي دولار بين عامَي 2021 و2025. تكشف هذه الإحصاءات المُستقاة من الجمارك اللبنانية، أن خطوط السلطة في لبنان منفصلة عن المصالح القومية، وأنه لا يظهر أي أثّر لأي تخطيط أو لأي سياسة خارجية مدروسة في ظل المعاناة من عجز تجاري يتجاوز نصف الناتج المحلي، مشكّلاً أحد أبرز تشوّهات «اقتصاد الكازينو».
تشير أرقام التجارة الخارجية بين لبنان والسعودية إلى أن الخلل لمصلحة السعودية تعزّز أكثر في السنوات الخمس الأخيرة، وتحديداً منذ منتصف عام 2021. هو خلل غير منطقي، ولا سيما إذا جرت معاينته بشكل كلّي وتفصيلي. فمن ناحية السياسات الاقتصادية والجمركية، يظهر أن لبنان لا يتّبع أي سياسة فاعلة تجاه سوقٍ كانت تُعدّ تقليدياً من أهم الأسواق العربية للصادرات اللبنانية. كان الدفاع عن السعودية شرساً إلى درجة مستغربة في ظل عجز لبنان لمصلحتها. فلم يكن لبنان يوماً يصدّر إلى السعودية أكثر مما يستورد، بل كان العكس هو الصحيح. وبحسب أرقام الجمارك اللبنانية، فإن استيراد لبنان من السعودية كان ضمن مسار تصاعدي في السنوات العشر الأخيرة. ففي عام 2016 استورد لبنان ما قيمته 317 مليون دولار، ثم بلغ ذلك ذروته في عام 2024 مسجّلاً استيراداً بقيمة 886 مليون دولار. في المقابل، تراجعت الصادرات اللبنانية إلى السعودية بشكل حادّ، إذ سجّلت في الفترة الممتدة بين عامَي 2016 و2021 معدّلَ تصديرٍ سنوياً بلغ نحو 218.2 مليون دولار مقارنة مع 415 ألف دولار سنوياً في الفترة ما بين عامَي 2022 و2025. القصة بدأت في نيسان 2021 عندما ضبطت السعودية حبوب كبتاغون مخبّأة داخل شحنة رمان واردة من لبنان، عندها قامت السعودية بتعليق استيراد الفواكه والخُضر من لبنان. ومذَّاك انعدمت صادرات لبنان إلى السعودية، وهو ما يُفسّر الانخفاض الحادّ في حجم الصادرات.
من أبرز واردات لبنان من السعودية، المشتقّات النفطية، خصوصاً المازوت أو الغاز أويل الذي كان وحده مسؤولاً عن زيادة الاستيراد بين عامَي 2023 و2024 بنحو 460 مليون دولار. في عام 2024 شكّل المازوت نحو 72% من صادرات السعودية إلى لبنان. وتضمّ قائمة الاستيراد مشتقّات نفطية أخرى، وسلعاً متعلّقة بالصناعات النفطية مثل البلاستيك وغيرها. كما يستورد لبنان من السعودية سلعاً غذائية، مثل الألبان والأجبان، علماً أن لبنان يُنتج مثلها محلياً.
في عام 2020 كانت صادرات لبنان إلى السعودية تُشكّل نحو 7% من صادراته الإجمالية. شكّلت المواد الغذائية المصنّعة، والتي تشمل الشوكولا، المعلبات والعصائر، نحو 25.5 % من إجمالي قيمة البضائع المُصدَّرة في تلك السنة. وبلغت نسبة المُنتجات الزراعية وبالأخص الخُضار والفواكه (مثل البطاطا والطماطم والعنب والخس والتفاح) ما بين 11% و12% من الصادرات المتّجهة إلى السعودية. كما أن قطاع الكيماويات والمعدّات الصناعية (خصوصاً المولّدات الكهربائية) من ضمن أهم السلع المصدّرة التي ظلّت جزءاً رئيسياً من الميزانية الصافية للصادرات اللبنانية إلى المملكة حتى بعد عام 2012، رغم تراجعها في السنوات التالية. وعلى الجانب الآخر، زادت حصّة مجوهرات الذهب والأحجار الثمينة تدريجياً من 4.7 % إلى أكثر من 7 % من إجمالي قيمة الصادرات إلى السعودية بين عامَي 2020 ومطلع 2021، في حين بلغ التصدير من المجوهرات حوالي 6 ملايين دولار وحدها إلى المملكة خلال كل تلك الفترة نفسها.
التقاعس اللبناني خلفيّته سياسية
لبنان هو جزء من إطار «المنطقة العربية الكبرى للتجارة الحرة» الذي دخل حيز التنفيذ التدريجي منذ عام 1998 واكتمل تطبيقه في عام 2005، والذي ينص على إعفاء تام من الرسوم الجمركية على البضائع الأصلية (الزراعية والصناعية) بين الدول الأعضاء بشرط استيفاء معايير المنشأ العربية والتصديق والتوثيق الرسمي لهذه الأصول. الفكرة، هي أن تتوقف السعودية عن الاستيراد من لبنان، فذلك خرق للاتفاق، والمشكلة الكبرى هي عدم ردّ لبنان بالمثل على هذا القرار، علماً أن المُنتجات التي يستوردها البلد من السعودية لها بدائل من عدّة دول، كما أن بعض المُنتجات الأخرى، مثل الألبان والأجبان لها بدائل محلية. هذه الأرقام تبيّن أن الميزان التجاري مع السعودية أصبح شبه أُحادي الاتجاه، لصالح الصادرات السعودية إلى لبنان.
من الواضح أن الدافع الأساسي خلف عدم اتخاذ الدولة أي إجراء في هذا الملف هو سياسي. وهو توجّه يتعمّد عدم استفزاز السعودية بأيّ شكل من الأشكال، حتى لو كان عن طريق اتخاذ إجراء هو حقّ للبنان. ومن الواضح أيضاً أن لا رأيَ اقتصادياً حقيقياً يقف خلف عدم اتخاذ الدولة أيّ إجراء في هذا الملف أيضاً.
هذا الواقع يطرح إشكالية واضحة في إدارة الدولة اللبنانية لعلاقاتها التجارية. فبينما استمرّ لبنان في استيراد المشتقّات النفطية والسلع السعودية بمئات ملايين الدولارات سنوياً، لم يتخذ أي إجراءات مضادّة لتصحيح الخلل التجاري أو دعم القطاعات المصدّرة المتضررة. النتيجة أن الميزان التجاري مع السعودية بات يمثّل نزيفاً صافياً من العملات الصعبة، والأصعب من ذلك هو أن هذا التحوّل حدث خلال أكبر أزمة اقتصادية ومالية عاشها لبنان في تاريخه الحديث.
اقتصادياً وسياسياً، يُظهر هذا الخلل غياب استراتيجية لبنانية متكاملة لمعالجة قرار المقاطعة السعودي سواء عبر الدبلوماسية الاقتصادية أو من خلال البحث عن أسواق بديلة. فالدولة سمحت باستمرار التدفّق الأحادي للواردات، ما يعني أن كلفة هذا العجز التجاري تتحمّلها احتياطيات لبنان بالعملات الأجنبية، في حين خسر المصدّرون اللبنانيون أهم سوق خليجية لهم منذ عام 2021.