علي سرور/ جريدة الأخبار
في وقت تتسارع فيه المنافسة على السيطرة على الفضاء كجبهة إستراتيجية جديدة، أعلنت الصين في الأشهر الماضية عن خطوات متقدمة في مشروعها لبناء شبكة إنترنت فضائية ضخمة تُعرف باسم «قوو وانغ» (Guo Wang)، أي بما يُترجم صينيًا بـ «الشبكة الوطنية».
في وقت تتسارع فيه المنافسة على السيطرة على الفضاء كجبهة إستراتيجية جديدة، أعلنت الصين في الأشهر الماضية عن خطوات متقدمة في مشروعها لبناء شبكة إنترنت فضائية ضخمة تُعرف باسم «قوو وانغ» (Guo Wang)، أي بما يُترجم صينيًا بـ «الشبكة الوطنية».
المشروع، والذي يُخطّط لإطلاق نحو ثلاثة عشر ألف قمر صناعي في المدار الأرضي المنخفض، يُقدَّم كإجابة صينية مباشرة على شبكة «ستارلينك» الأميركية التابعة لشركة «سبايس إكس»، لكنه في جوهره يتجاوز البُعد التقني نحو رهانات سياسية وأمنية واقتصادية عالمية.
مشروع سيادي
وفقًا لوكالة الأنباء الصينية الرسمية (شينخوا)، أطلقت بكين في آب (أغسطس) الماضي المجموعة التاسعة من أقمارها الاصطناعية من مركز «تاييوان» شمال البلاد، على متن صاروخ «لونغ مارش-6» المعدَّل. هذه المهمة جاءت بعد أسبوع واحد فقط من إطلاق ثامن دفعة من الأقمار بواسطة «لونغ مارش 5B» من قاعدة «ونتشانغ» في جزيرة هاينان. هذه الوتيرة المتسارعة للإطلاقات توضح بجلاء أنّ المشروع يحظى بأولوية قصوى لدى الحكومة المركزية.
في هذا السياق، أوكلت مهمة إدارة المشروع إلى شركة SatNet التي تأسست عام 2021 تحت إشراف لجنة الإشراف على الأصول المملوكة للدولة (SASAC)، ما يشير إلى أن «قوو وانغ» ليس مجرد مبادرة تجارية، بل مشروع سيادي يخضع مباشرة لسلطة الدولة.
عين على أميركا وأخرى على أفريقيا
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ المشروع مجرد محاولة صينية للحاق بالركب في سوق ناشئة. لكن تحليل المعطيات يكشف عن دوافع أعمق في السياسة والتجارة.
من جهة، تضع الصين نصب أعينها منافسة الشبكة التابعة لإيلون ماسك، «ستارلينك». فنجاح «سبايس إكس» في جذب ملايين المشتركين حول العالم إلى الشبكة، إلى جانب يحوّلها إلى أداة إستراتيجية في الحرب الأوكرانية، إذ إنّ واحدًا من أبرز الدروس المستفادة من هذه الحرب هو الدور الحاسم للاتصالات المستقلة.
شبكة «ستارلينك» ساعدت كييف في الحفاظ على قنوات اتصال فعالة رغم استهداف البنية التحتية الأرضية. في المقابل، ترى الصين أنّ السيطرة على الفضاء السيبراني لا تقلّ أهميةً عن السيطرة على الأرض أو البحر.
أظهرت التجربة الأخيرة أنّ الإنترنت الفضائي لم يعد خدمة مدنية بحتة، بل قدرة مزدوجة (مدنية ــ عسكرية) مؤثرة في مسارات النزاعات. وبالنسبة إلى الصين، التي منعت «ستارلينك» من العمل على أراضيها، ترى في «قوو وانغ» ضرورةً لضمان استقلالية سيبرانية وعدم ترك مجال التحكم بالمعلومات لشركات أميركية.
من جانبٍ آخر، تولي الصين أهميّة لعلاقاتها مع الدول الآسيوية والأفريقية، إذ يشير تقرير معهد RUSI البريطاني إلى أنّ نحو 70 في المئة من بنية شبكات الجيل الرابع في أفريقيا بنيت بتقنيات «هواوي».
هذا الواقع يسهّل على الدول الأفريقية «الانخراط السلس» في منظومة الإنترنت الفضائي الصيني. بعد توقيع بكين على أكثر من 117 اتفاقية تعاون فضائي مع ثلاثين دولة، تعوّل على أنّ شبكة «قوو وانغ» ستندمج ضمن «طريق الحرير الرقمي»، ما يعزز نفوذها في القارة السمراء ويمنحها القدرة على التحكم في تدفقات المعلومات.
تحديات تقنية ومخاطر بيئية
رغم الأهميّة الإستراتيجية لمشروع الإنترنت الفضائي الصيني، إلا أنّه يواجه تحدّيات عدّة، أبرزها مدى قدرة بكين على سدّ الفجوة التقنيّة مع «ستارلينك»، خصوصًا في ظلّ سياسة الحصار التكنولوجي الذي تنتهجه واشنطن لكبح التطوّر التقني لدى منافستها اللدودة.
ورغم تسارع المشروع الصيني الفضائي، إلا أنّ الطريق لا يزال طويلًا أمامه، إذ لا تتجاوز دفعات الإطلاق عشرة أقمار اصطناعية في المرة الواحدة، مقابل نحو ثمانية وعشرين لصواريخ «فالكون 9» التابعة لـ«سبايس إكس». هذا يعني أن الوصول إلى رقم ثلاثة عشر ألف قمر الذي حدّده المشروع الصيني، قد يستغرق سنوات طويلة ما لم تُحدث الصين قفزة في قدرات النقل الفضائي.
من جهة أخرى، ستنضمّ أقمار مشروع «قوو وانغ» الاصطناعية إلى أكثر من ثمانية آلاف قمر تابعة لـ «ستارلينك»، إضافة إلى مشاريع مشابهة متنامية مثل Kuiper التابع لشركة «أمازون»، ومشروع Qianfan الصيني أيضًا. هذا الاكتظاظ في المدار المنخفض للأرض يهدّد بحوادث تصادم، إذ يحذّر خبراء الفضاء من «تأثير كيسلر» إذ قد تتسبب سلسلة من الاصطدامات بفوضى مستدامة في المدار.
وبينما يشتعل السباق التنافسي على المشاريع الفضائية، خصوصًا بين الولايات المتحدة والصين، تأخذ المخاطر البيئية مقعدًا خلفيًا بين الأولويات. علمًا أنّ معظم الأقمار الاصطناعية الحديثة مصنوعة من الألومنيوم، الذي يحترق في الغلاف الجوي عند نهاية عمر القمر. لكن لا دراسات كافية حول التأثير الكيميائي الطويل المدى لتراكم هذه المواد في الغلاف الجوي.
«نظام عالمي بديل»
في جوهره، لا يمكن النظر إلى مشروع «قوو وانغ» كخطوة تقنية أو تجارية فقط. فالصين تسعى إلى كسر احتكار الغرب للفضاء الرقمي، بعدما تحوّل الإنترنت والأقمار الاصطناعية إلى أدوات ضغط وهيمنة سياسية بامتياز. كما أثبتت تجربة أوكرانيا أنّ التحكم بشبكات الاتصال قد يحدّد مصير الحروب، فيما تستمر الولايات المتحدة في فرض شروطها على البنية التحتية للاتصالات عبر شركاتها الخاصة، مثل «سبايس إكس» أو «أمازون».
انطلاقًا من هذا الواقع، تطرح الصين بديلًا يعيد توزيع موازين القوى: شبكة إنترنت فضائية قادرة على خدمة عشرات الدول التي دائمًا ما عانت من فجوة رقمية أو من الهيمنة الغربية على تدفق المعلومات. وعبر «قوو وانغ»، يمكن لبكين أن تقدّم نفسها كقوة تمنح «الجنوب العالمي» خيارًا آخر، بعيدًا من قبضة واشنطن وحلفائها.
على الرغم من التساؤلات حول طبيعة الإنترنت الذي ستوفره الصين، ومدى حرية الوصول عبره، في ظلّ سياسات الصين «الصارمة» حيال شبكتها المحليّة، إلا أنّ الغرب نفسه لم يتعامل مع الإنترنت بوصفه «فضاءً مفتوحًا للجميع»، بل استثمره كأداة استخباراتية وتجارية، وجعله وسيلةً لإدامة تفوّقه. في هذا السياق، يصبح المشروع الصيني أداة مقاومة رقمية تسعى إلى بناء نظام اتصالات عالمي أكثر تعددية، وإن حمل معه أبعادًا رقابية خاصة به.
إذا ما تحقّق هذا الطموح الصيني، فلن يبقى الإنترنت مجالًا موحّدًا تُهيمن عليه الشركات الأميركية، بل سيتحوّل إلى ساحة صراع جيوسياسي متعدد الأقطاب. وهنا تحديدًا تكمن رمزية مشروع «قوو وانغ»: ليس فقط شبكة إنترنت فضائية، إنّما إعلان عن بداية نهاية التفرّد الغربي في السيطرة على الفضاء والمعلومة، وبداية عصر جديد تُعاد فيه كتابة قواعد اللعبة الرقمية.