في سياق عالمي تُهيمن عليه الشعارات وسرعة الاستهلاك، إذ تُوظّف القيم أداةً للضبط أو للتسويق بدل أن تكون مبدًا للسلوك العام، يقدّم كتاب الفيلسوف الكندي آلان دونو "الأخلاق في عصر التفاهة" قراءة نقدية للخطابات السياسية والاجتماعية الحديثة، سواء كانت يمينية أو يسارية. ويركّز على التناقضات بين أقوال الفاعلين السياسيين وأفعالهم العملية، مستعرضًا حالات مثل الانزلاقات الأخلاقية في السياسات العامة وأثرها على المؤسسات والمجتمعات.
تأتي الترجمة العربية، والتي صدرت حديثًا عن دار سؤال في بيروت، وأنجزها الباحثان المغربي المهدي مستقيم واللبناني باسل الزين، لتُبرز خصوصيات اللغة الفلسفية الفرنسية والأساليب التأويلية التي اعتمدها المؤلف في معالجة موضوعاته. كما تعكس الترجمة المنهج التحليلي الذي يتبعه دونو في تقسيم الموضوعات، مثل التمييز العنصري والنظام الاستثنائي وأخلاق الأعمال والتنمية المستدامة والفولكلور.
الممارسات الواقعية لليمين واليسار
ينطلق الكتاب من ثلاث محطات: الأولى، التصنيف لا التوليف، إذ يركّز دونو على رصد الممارسات الواقعية للخطابين اليميني واليساري وكشف التناقضات البنيوية بين أقوالهما وأفعالهما، دون السعي إلى تقديم حلول أو بدائل. والثانية، قصديّة المنظور الفلسفي، يعالج فيها موضوعات متنوّعة مثل التمييز العنصري، والنظام الاستثنائي وتحوله إلى دائم، وأخلاق الأعمال، والتنمية المستدامة، والفولكلور، مع التركيز على استكشاف المسكوت عنه في الخطابات وتحليل آثارها على المجتمع؛ والثالثة، بين الإبداع والتقميش، إذ يوازن دونو بين الكتابة الإبداعية التحليلية والاعتماد على المصادر والمراجع لدعم تحليله وتوضيح موقفه النقدي.
يستعرض الكتاب حالات عملية، مثل طرد أستاذة جامعية في الولايات المتحدة لمجرد الإشارة إلى كتاب يتناول العنصرية، أو إجراءات الصحة العامة خلال جائحة كوفيد-19 التي تحوّلت من أدوات وقائية إلى نظام ضبط دائم، ما كشف انزلاق الخطابات القانونية والسياسية إلى ممارسات لا-أخلاقية. كما يوضح الكتاب كيف تتحوّل أخلاقيات الأعمال والتنمية المستدامة إلى شعارات تغطي استغلال الموارد والفقر والتفاوت الاقتصادي، فيما يبيّن أن الفولكلور غالبًا ما يُستعمل بصفته موروثًا مشاعًا بلا شعب محدد، لأغراض تجارية وسياسية.
فحص الخطاب من منظور فلسفي
يحلّل دونو تأثير الخطابات السياسية في الحياة اليومية، من خلال توثيق الانزلاقات بين الأقوال والأفعال في ممارسات المؤسسات، ويقدّم أمثلة محددة عن تجاوزات النظامين اليميني واليساري، بما في ذلك استخدام الخطاب الحقوقي والسياسي لتبرير إجراءات تنتهك المبادئ الأخلاقية. كما يوضح الكتاب أن الهدف من هذا التحليل ليس التوفيق بين الأطراف، بل كشف الأنماط المتكررة للتناقضات البنيوية بين الخطاب والممارسة، وبيان النتائج العملية لما يُطرح باسم المبادئ.
يبرز الكتاب كذلك التوتر بين الإبداع والتحليل النقدي، إذ يستخدم دونو مزيجًا من السرد التحليلي والاستشهاد بالبيانات الواقعية، مع الاستفادة من مصادر متعددة لدعم حججه، ما يتيح فحصًا دقيقًا للخطابات المعاصرة من منظور فلسفي محض، ويكشف المسكوت عنه فيها دون تبسيط أو إسقاط أفكار مسبقة.