عمّار فراس (العربي الجديد)
نشرت صحيفة واشنطن بوست ملفًا من 38 صحفة، يحوي عرضًا لخطة ما بعد حرب الإبادة في غزّة. عنوان الخطة The GREAT Trust، ويقسم إلى جزأين؛ الأول، يعني أمانة، أي مؤسسة شاملة لعدد من الشركات، وكلمة Great وهي اختصار لـ"إعادة بناء غزّة، التسارع الاقتصادي والتحول"، والقسم الثاني من العنوان هو: "من تدمير ذراع إيران إلى حليف إبراهيمي".
تشمل الخطة "إعادة توزيع" فلسطينيي قطاع غزّة عبر "الرحيل الطوعي" إلى بلد آخر، أو من خلال إنشاء مساحات مغلقة داخل القطاع في أثناء عملية البناء. تشير الصحيفة إلى أن "المشروع الاستثماري" الكبير يُتداول ضمن إدارة ترامب، ضمن خطة تشمل العملات الرقمية والذكاء الاصطناعي وناطحات سحاب وميترو وترام، ومشاريع تحويل القطاع إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، بحسب تعبير ترامب.
لكن، ماذا عن الإبادة الجماعية؟ ماذا عن الجريمة؟ ماذا عن القتلى؟ كلّ هذه الأسئلة غير مطروحة ضمن "الخطة"؛ إذ يتم التعامل مع فلسطينيي القطاع الغزيين بوصفهم كتلة بشرية من السهل تحريكها ونقلها وسلب حقوقها، فمن يخضع لإبادة جماعية أمام أعين العالم وبدعم أميركي واضح، لا يؤخذ رأيه في إعادة بناء أرضه.
المرعب في الخطة أننا أمام التجلي الصرف للمخيّلة الرأسمالية المتوحشة، تلك التي تتجاهل الإبادة والحقوق، وتقدّم صورًا مولدةً بالذكاء الاصطناعي ناصعة النظافة، تعيد تَخيُّل قطاع غزّة بوصفه "شركة" في حاجة إعادة للهيكلة، والحل موجود في مجرّد Presentation.
الصيغة السابقة يتبعها المستثمرون، ورؤساء الشركات، ونتنياهو نفسه في كلّ مناسبة، لرسم تصوره وخططه. وهذا المرعب في الملف الذي نراه، هو أشبه بعرض خاص لشركة، مع أرقام وبيانات وتخيلات واحتمالات استثمارية، وكأن غزّة أرض بلا أي شيء، وكأن الغزيين لا يقتلون يوميًا على يد "المستثمرين" أنفسهم.
لن نخوض في تفاصيل الخطة، لكن المرعب هو العمليات الحسابية التي تتعامل مع البشر بوصفهم أقل من أرقام، هم مجرّد بيانات، لا بد من "إحصائها" وتدويرها والتعامل معها لأجل توفير الانفاق. مثلًا، هناك عبارة مرعبة تمر ضمن العرض مفادها أن كلّ فلسطيني "ينقل" يكلف تسعة آلاف دولار في حال "نُقل" خارج غزّة، ويوفر 32 ألف دولار إن بقي فيها. وبحسبة رهيبة، يمكن توفير 500 مليون دولار في "نقل" 1% من السكان.
هكذا، ليس فلسطينيو القطاع إلا معوقات في صفقة مالية، ولا بد من التوفير، ضمن المشروع الذي سيولد نحو 185 مليار دولار خلال عشر سنوات.
تظهر في العرض اللغة "الإدارية" لتنسيق الإبادة ومحو أثر الغزيين وذاكرتهم وفضاءاتهم ضمن عبارات من قبيل "زيادة عدد الغزيين الذين سيغادرون غزّة طوعًا في أثناء إعادة الإعمار". عبارة كهذه تثير القشعريرية عند مقارنتها بالصور التي نراها في القطاع. عبارة منمقة تختزل التطهير العرقي، وإبادة الذاكرة، وإبادة المكان، والتحريض على القتل والتهجير القسري.
ربما هذه المرة الأولى التي نشهد فيها مخطّطًا بهذا الوضوح والعلنية لجريمة الإبادة الجماعية ومحو أجساد وذاكرة كتلة من البشر تفوق المليونين محصورين في مكان ضيق. فحش الجريمة مغلف بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وبلاغة الشركات العابرة للقارات، والاستثمارات الكبرى.
نحن أمام رأسمالية الإبادة بشكلها الفجّ الذي يصل حد وضع إحصائيات للانتماء، إذ نقرأ مثلًا "25% سيختارون الانتقال في أثناء عمليات البناء، وهناك 75% لن يعودوا إلى غزّة". لكن السؤال، من أين هذه النسب؟ من استطلع رأي الغزيين؟ وماذا عن الشهداء وآراء المطمورين تحت الركام؟ الأهم، كيف ستتم زيادة عدد من يقررون المغادرة؟ ما هي "الحوافز" و"العروض"؟ الحل "العملي" والتطبيقي لهذا نراه الآن، ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قتل أكبر عدد ممكن من الغزيين لكي لا يبقى سوى قلة قليلة، لا حافز لها سوى النجاة.
نحن أمام نموذج مروّع للعنجهية والعنف المقنّع برؤية مستقبلية، لا تقيم أي اعتبار سوى للربح والربح الصرف، ولو فوق ركام الشهداء وأجسادهم. رأسمالية الاستعمال هذه تكشف عن وجه العالم الحالي، القتل مقابل الربح.