وفيق قانصوه (الأخبار)
بسرعة قياسية لا يمكن تفسيرها إلا استجابة لطلبات خارجية أو تنفيذًا لالتزامات أمام الوصاية الأميركية، أنهت لجنة "ترسيم الحدود البحريّة اللبنانية مع قبرص" التفاوض الشكلي مع الجزيرة، وفقًا لاتفاق 2007 المريب الذي أبرمته حكومة فؤاد السنيورة، والذي فرّط بما يعادل نصف مساحة لبنان من الحقوق البحريّة.
ولم تأخذ اللجنة التي يرأسها وزير الأشغال فايز رسامني، بالآراء القانونية التي تقترح منهجية للترسيم مع قبرص، وما يرتبط مباشرة بهذا الملف (كالترسيم مع سوريا)، بل درست رأيًا تقنيًا واحدًا ضعيفًا، متجاهلة دراسات بنيت على أساس أحكام محكمة قانون البحار والمحكمة الدولية والتحكيم الدولي، تعطي لبنان مساحات إضافية تفوق الـ5,000 كلم². بل إنّ الأمر بلغ حدّ انتقاء أجزاء من أحكام تعطي قوّة مزعومة للموقف القبرصي، في مرافعة مريبة لمصلحة قبرص.
لجنة الأشغال والطاقة والمياه النيابية عقدت جلسة استثنائية أمس، خصّصت لمناقشة هذا الملف، برئاسة النائب سجيع عطيّة، وبحضور رسامني، وبعض أعضاء لجنة الترسيم (ممثّل الجيش اللبناني العميد الركن البحري مازن بصبوص، رئيس هيئة إدارة قطاع البترول كابي دعبول، المحامي نجيب مسيحي)، وخبراء من بينهم العميد الركن المتقاعد خليل الجميّل، الدكتور عصام خليفة، العميد المتقاعد سعيد أبو راشد وممثّل رئيس الجمهورية أنطوان شقير.
قدّم بصبوص وجهة نظر اللجنة، وهي نفسها وجهة نظر المحامي مسيحي، وتتلخّص في نقطتين هما: انطباق مبدأ استوبيل (مبدأ الإغلاق الحكمي) على اتفاقية 2007، وأنّ قواعد البحار لا تسمح للبنان بالمطالبة بأكثر من خطّ الوسط باعتبار أنّ الساحل القبرصي أطول من الساحل اللبناني وباعتبار أنّ فرق الطول - الذي سمّاه بـ"المزعوم" - ليس كبيرًا لصالح لبنان. وأضاف أنه رغم أنّ اتفاقية 2007 مع قبرص لاغية، إلا أنّ لبنان أرسل عام 2011 المرسوم 6433/2011 إلى الأمم المتحدة، وأنّ قبرص بإمكانها الاعتراض وفق مبدأ استوبيل، لأنّها متضرّرة من أي تعديل بعدما قسّمت بلوكاتها البحريّة وفق المرسوم.
وهنا لفت نوّاب إلى أنّ المادّة الثالثة من المرسوم، نصّت على إمكانية "مراجعة حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة وبالتالي تعديل إحداثيّاتها عند توافر بيانات أكثر دقّة"، ما يعني عدم انطباق مبدأ استوبيل.
كذلك زعمت اللجنة أنّ الشاطئ القبرصي أطول من الشاطئ اللبناني، بافتراض غريب أنّ كلّ الساحل الشرقي لقبرص يحتسب من رأس أكروتيري جنوبًا، إلى رأس كراباس المقابل لتركيا وسورية شمالًا! كما ظهر أنّ الخطأ في الحساب قد تضاعف عندما احتسب طول الشاطئ مع تعرّجاته وخلجانه، بدلًا من احتساب طول الاتّجاه العام للشاطئ!
وهنا سأل نوّاب عن سبب تجاهل طول الاتّجاه العام للشاطئ، ووفق أيّ رأي قانوني يحتسب نفس الشاطئ القبرصي في ترسيمين، مرّة مع لبنان ومرّة مع سوريا؟ كما أنّ نقاط الأساس التي اعتمدت في ترسيم خطّ الوسط بين قبرص ولبنان تبدأ شمالًا من رأس غريكو المقابل لمصبّ نهر لبنان الكبير شمالًا، وليس من رأس كارباس!
كذلك زعمت اللجنة أنّ منهجية الإنصاف الثلاثية التي تطبّقها محكمة قانون البحار (رسم خطّ وسط مؤقّت، تعديل الخطّ وفق الظروف الخاصّة ذات الصلة، اختبار الإنصاف)، لا تنطبق على حال لبنان. واستندت في ذلك إلى أجزاء منتقاة من أحكام لا تنطبق على حال لبنان، مقابل إغفال حقيقة أنّ الكثير من الأحكام الدولية تدعم حقّه بمساحة إضافية.
ولمزيد من "الإقناع"، لجأت اللجنة إلى "التخويف" من أنّ قبرص ستقاضي لبنان، ما سيضيّع عليه سنوات من عدم الاستكشاف، ويكلّف ملايين الدولارات للتحكيم، وقد يخسر مثلّثًا عند النقطة 2 من خطّ الترسيم الحالي، تقدّر مساحته بمئة كلم². وذهبت حدّ "التخويف" من أنّ الجزيرة قد تطالب بمساحة إضافية إن أقرّ لبنان مبدأ أطوال الشواطئ!
العميد الركن المتقاعد الجميّل، شرح العيوب التقنيّة والقانونيّة والدستوريّة لاتفاقيّة 2007 والأسباب التي تجعلها لاغية وغير مُنصفة للبنان. وأوضح الأسباب القانونيّة التي توجب اعتماد طريقة الترسيم وفق تناسب أطوال السواحل، وتُعطي لبنان 2600 كيلومتر مربّع، أكثر ممّا كان سيحصل عليه بموجب اتفاقيّة 2007.
وأوضح أنّ قبرص التي يشكّل طول سواحلها أقلّ من 3% من طول سواحل الدول المُحيطة بها، تسعى إلى الحصول على مساحة بحريّة تفوق حجم كتلتها البرّية بعشرة أضعاف، وتعادل ما ستحصل عليها مصر وفلسطين ولبنان وسورية وتركيا واليونان معًا، في ما سيحصل لبنان على مساحة بحريّة لا تصل إلى أكثر من 1.7 من مساحة كتلته البرّية.
وأبرز الجميّل، ثمانية أحكام صادرة عن المحاكم الدوليّة البحريّة اعتمدت في قراراتها على اختبار التناسب في أطوال السواحل، وعرض توصيات اللجنة التي أنشئت عام 2022، برئاسة وزير الأشغال السابق علي حميّة، وممثّلين عن وزارات الطاقة والمياه والدفاع الوطني والخارجيّة، وهيئة قطاع البترول، والتي أوصت "باعتماد الترسيم وقف تناسب أطوال الشواطئ، وإعداد مشروع مرسوم لتعديل المرسوم رقم 6433/2011، واعتماد إحداثيّات جديدة لتدارك الثغرات التي أدّت إلى خسارة لبنان مساحة من منطقته الاقتصاديّة الخالصة".
وسأل الجميّل، ما الذي تغير لتأليف لجنة جديدة لإعادة بحث الموضوع مؤلفة من ممثّلي الوزارات نفسها في لجنة عام 2022، لا سيّما أنّ المعطيات القانونيّة والتقنيّة والجغرافيّة لم تتغيّر. واقترح تكليف اختصاصييّن تقنيين وقانونيين دولييّن درس الملفّ بطريقة علميّة.
نقاش حادّ واتهامات
وأثار توتّر مسيحيى وبصبوص، استغراب النوّاب في الجلسة التي شهدت توتّرًا. إذ اتّهم خليفة، اللجنة بالاقتراب من الخيانة العظمى، داعيًا إلى محاكمة أعضائها إن فرّطوا بحقوق اللبنانيين. وسأل بصبوص: "أنت قلت في كتابك "حقيقة ترسيم الحدود البحريّة" أنّ ترسيم 2007 مع قبرص مجحفٌ بحقّ لبنان، فما الذي غيّر رأيك اليوم؟".
وانتقد النائب حسين الحاج حسن، التسرّع في إنهاء الترسيم مع قبرص، ودعا إلى تجميد أيّ إجراء ريثما يتمّ الانتهاء من ترسيم الحدود البحريّة اللبنانية السورية، وفق ما توصي محكمة قانون البحار، وإلى تشكيل لجنة لترسيم الحدود البحريّة مع سورية. وردًّا على تحذير دعبول من أن التقاضي مع قبرص قد يعيق فرص تلزيم البلوك رقم 5، لفت إلى أنّ القرار السياسي الخارجي يتحكّم في عدم تقدّم شركات الاستكشاف والإنتاج إلى دورات التراخيص، بينما قبرص هي التي قد تتضرّر.
وأيّدت النائب حليمة قعقور الجميّل والحاج حسن، ودعا النائب جميل السيّد إلى الاستفادة من خبراء ومتخصّصين لتكوين صورة أفضل وتحقيق المصلحة الوطنية. في ما كان لافتًا قول النائب سجيع عطيّة، إنّه عندما سأل رئيس الجمهورية، عن اقتراحه لشخصيات تحضر الجلسة، بأنّ العماد جوزاف عون، ردّ عليه: "العميد الجميّل، هو أكثر من يعرف في الموضوع". وصرّح عطيّة بعد الجلسة بأنّ اللجنة أوصت بالاستماع لخبراء أجانب، مشيرًا إلى أنّ هذا الملف يحتاج إلى استدراك، قبل أن تلتزم الحكومة وتوقّع مع قبرص أي اتفاق جديد.