علي بدر الدين (جريدة البناء)
لا يختلف اثنان على أنّ الحروب داخلية كانت أو خارجية تؤدي حتماً الى انهيار الدول اقتصادياً وإنسانياً وأخلاقياً ومؤسساتياً، وإفلاسها مالياً وإفقار شعوبها وتسيّد الفلتان والفوضى والفساد والرشى، وحالات هروب ونزوح الى مناطق يمكن أن تكون أكثر أماناً وهؤلاء من أكثر الفئات حاجة الى الدعم بكلّ أشكاله، لأنهم يشكلون عبئاً كبيراً على السلطات الحاكمة التي أصبحت هي الحلقة الأضعف، مما يفرض عليها التوجه الى دول أخرى طلباً للإغاثة والمساندة.
النزوح يُعتبر من أسوأ نتائج هذه الحروب وهو الذي يتحوّل ممراً أو جسر عبور لدخول دولٍ كبرى ومؤثرة وتبغي السيطرة وسرقة الثروات من خلال منظمات دولية أهلية ورسمية على خط أزمات هذه الدول المنهارة تحت عناوين مختلفة وبذريعة دعم ومساعدة ومساندة أنظمتها وشعوبها الفقيرة، تحت غطاء من التقديمات المالية المباشرة أو خدمات عينية، ما يفتح في المجال لهذه الدول باستباحة سيادة الدول المحتاجة، ويساهم في ضعف السلطات والشلل الذي يصيب مؤسساتها في إزدياد الجمعيات (أندية، روابط، هيئات، منظمات و…) التي تطرح نفسها بديلاً من الدولة المركزية وتحاول التمدّد والسيطرة على كلّ صغيرة وكبيرة من خلال تغلغلها في أماكن وتجمعات النازحين وإغرائهم وترغيبهم بحصص غذائية أو مواد تنظيف أو بفرش اسفنج وحرامات أو حتى بالأموال. وهذا عادة ما يحصل في الحروب بشكل عام.
ما يهمّنا في هذه العجالة هو الحديث عن تداعيات الحروب والصراعات في لبنان وعليه، خاصة أنّ الإعتداءات والإجتياحات والحروب الاسرائيلية عليه مستمرة وإنْ بشكل متقطّع منذ العام 1947 لغاية الآن من دون توقع أو معرفة الى متى ستبقى وقبلها الفتن الطائفية والمذهبية التي ما زالت “كلّ ما دق الكوز بالجرة” يُعاد طرحها والتخويف بها ومنها ومن تداعياتها الكارثية على البلاد والعباد. ومع كلّ حرب أو معركة أو فتنة أو أزمة مهما كان نوعها تفتح شهية قوى سياسية وطائفية وسلطوية لتأسيس جمعية هنا وجمعية هناك، حتى تجاوز عدد الجمعييات الـ 11 ألف جمعية في لبنان وفق مصادر رسمية، مع أنّ الجمعيات الفاعلة تتراوح أعدادها ما بين 300 و500 جمعية حسب دراسات وإحصائيات وتعمل بنسبة مختلفة،
ونبتت الجمعيات كالفطر في أرض لبنان الرخوة والخصبة معاً منذ النزوح السوري الى لبنان ابتداء من عام 2011 وازدادت في مرحلة ما سُميَّ بثورة 17 تشرين 2019، يعني في بداية الأزمة الاقتصادية والمالية وسرقة أموال المودعين اللبنانيين من المصارف، وظلت ترتفع وتيرتها مع تدفق أموال من منظمات الأمم المتحدة والتنمية الأميركية والاتحاد الأوروبي وجمعيات فرنسية وبريطانية وأميركية ونروجية وعربية خليجية تتوأمت مع جمعيات محلية منها بنكهة غربية ومنها لبنانية تبحث عن الفتات.
وفي لبنان جمعيات محظوظة ولها النصيب الأكبر والحظوة لدى السلطات السياسية والحكومات المتعاقبة التي تخصّص لها مبالغ ضخمة من موازنة الدولة لأنّ مؤسّسيها ورؤساءها ورئيساتها من “عظام رقبة” الطبقة السياسية الحاكمة ولا تزال لها الأولوية من موازنة الدولة ومن المساعدات الخارجية، وهي أقرب إلى “البريستيج” منها إلى الواقع والفعل مع أنها تملك أسطولاً من المؤسسات الخيرية والتربوية والصحية وتبغي الربح مع انّ رخصتها أو العلم والخبر التي حصلت عليهما يتضمّنان بأنها جمعية لا تبغي الربح والمنفعة.
والجمعيات المتنوعة في لبنان وخاصة في المناطق أصبحت في خبر كان بعد ان توفي رئيسها ومؤسسها وانفخت دفّ هيئاتها المتعاقبة إما بفعل الوفاة أو تفرّقوا بفعل الاختلاف السياسي والدكتاتورية المتجذرة في نفوس البعض الذين التصقوا بالكرسي وكأنها ملكية حصرية لهم ورثوها من الأهل، وهناك جمعيات وهمية لم يبق منها إلاّ الإسم أو شخص واحد لم يجدد رخصتها ولم ينسّب أحداً ولا توجد هيئة عامة لانتخاب هيئة إدارية جديدة ولا يقدّم ميزانية آخر السنة للجهات الرسمية المعنية، فقط يحشر اسمها بين أسماء جمعيات فاعلة لإثبات الذات. وهناك جمعيات فاعلة جداً ورغم إمكاناتها المالية المتواضعة فاعلة ومؤثرة ولها مكانتها في المجتمع، واسمها وفعلها يدلّان عليها، وهناك جمعيات مأسست نفسها وتغطي نفقاتها وتدعم أهلها مادياً وتربوياً وصحياً من دون الحاجة الى أحد لأنها لجأت إلى الإنتاج الذاتي.
إنّ تفريخ المزيد من الجمعيات ليس دليل عافية بل هو تعميق للأزمات وهدر للأموال التي تقدّمها الدولة اليها أو التي ترد من الخارج بحيث يُعطى الناس المحتاجون اليها ووصلت لأجلهم تذهب الى الجيوب الخاصة وقد أثرت أصحابها.
وأصبح من الملحّ على الدولة ان تقفل مزراب تغذية العديد من الجمعيات من أموال الخزينة والشعب.
فهل من يقرأ ويرى ويسمع قبل فوات الآوان في مرحلة يحتاج فيها الوطن والمواطن إلى كلّ قرش…