أوراق سياسية

الجرّافات في «بنك أهداف» العدو: ممنوع إعمار الجنوب!

post-img

فراس خليفة (الأخبار)

على مدى الأشهر الماضية، نفّذ العدوّ الإسرائيلي سلسلة اعتداءات استهدفت عدداً كبيراً من الجرّافات والحفّارات في بلدات حدودية جنوبية ومناطق أخرى في الجنوب والبقاع. وكان آخرها الغارات التي طاولت فجر السبت الماضي معارض لبيع الجرافات والآليات في منطقة مصيلح، في ما عُدّ أكبر عدوان جوي على منطقة اقتصادية منذ انتهاء حرب الأيام الستة والستين. تأتي هذه الاستهدافات في سياق الاعتداءات المتواصلة والانتهاكات اليومية لاتفاق وقف إطلاق النار، إلا أنّ استهداف الآليات الهندسية يحمل دلالة خاصة، لجهة دورها في رفع آثار العدوان وعملية إعادة الإعمار. الرسالة الإسرائيلية واضحة: ممنوع إعادة الإعمار وعودة مظاهر الحياة في القرى الجنوبية الأمامية!

قبيل الرابعة من فجر السبت الماضي، لَمَع نورٌ مفاجئ في مَرسَم محمد الزين في مصيلح. شعاع وكتلة نارية كبيرة تلاهما دويّ قوي فأصوات هائلة متتالية.

الأربعيني الذي كان في ذلك الوقت يرسم إحدى لوحاته على وقع المسيّرات الإسرائيلية، لم يكن يتوقّع أنَّ تغير الطائرات الحربية على مكان قريب من شقته التي لم يمضِ أسبوعان على الانتهاء من إعادة ترميمها بعد تعرض البناء الذي تقع فيه لأضرار كبيرة في حرب الـ66 يوماً. «شعرتُ وكأننا لا نزال في قلب الحرب التي عشت كل تفاصيلها ولم أغادر خلالها منزلي».

برأي محمد، لا يحتاج الأمر إلى جهد كبير لفهم دوافع استهداف العدو مصالح اقتصادية وتجارية كمعارض الحفّارات والجرَّافات: «العدو يدخل اليوم بلعبته الجديدة، وهي تدمير أدوات وآلات إعادة البناء ليقطع الأوصال مجدداً ويقطع الأمل في إعادة الإعمار». ويُعرب عن خشيته من تبعات هذا النوع من الاستهدافات مع بقاء قسم كبير من سكان الجنوب خارج بيوتهم المدمّرة. إذ إن عملية إعادة الإعمار ستصبح «مغامرة؛ و«حتى في الأماكن الآمنة في الجنوب لن يعود تحريك هذه الآليات أمراً طبيعياً». في مصيلح، ينظر أحمد طباجة (65 عاماً) إلى «جنى العمر الذي صار رماداً».

يُحصي الرجل الذي أمضى قرابة 50 سنة في مجال تجارة الآليات الثقيلة، تدمير 116 آلية متنوعة من حفارات وجرافات وجرارات زراعية ومحادل وفلّاشات زفت وغيرها، مقدّراً خسارته بما يُراوح بين 5 و6 ملايين دولار، إضافة إلى الأضرار الكبيرة التي لحقت بالبناء السكني العائد له. يقول طباجة الذي افتتح مؤسَّسته قبل 35 عاماً: «لا أفهم لماذا تُستهدف مؤسسات ومصالح اقتصادية معروفة في مجالها لكل اللبنانيين».

تساؤل يقود أصحاب المصالح والمؤسسات المشابهة إلى سؤالين أساسيين: الأول، حول كيفية ترجمة «الدولة» وعودها على مستوى دفع التعويضات على خسائر قُدّرت بعشرات ملايين الدولارات، والثاني حول الشعور بالأمان والحماية. إذ «مَن يضمن أن لا يُعاد استهدافنا مجدداً في حال تمكنّا من أن نُعيد فتح مصالحنا؟»، يسأل أحد أصحاب المعارض على طريق مصيلح التي تشكّل واحداً من أكبر الأسواق التجارية لهذا النوع من الآليات.

مجازر آليّات

مِن على شُرفة منزله القريب في مزرعة دير تقلا، كان عدنان كنيار يراقب الغارات الإسرائيلية على ورشة تصليح وبيع الحفارات والآليات العائدة لابنه محمد في بلدة أنصارية (صيدا) مساء 3 أيلول الماضي. 12 غارة شنّها طيران العدو أحالت 46 آليّة إلى خُردة، وأحدثت أضراراً كبيرة في أبنية المنطقة السكنية. لا يجد كنيار تفسيراً لاستهداف «مصلحته» مرّتين (الأولى خلال حرب الـ66 يوماً)، سوى أن العدو يريد توجيه رسالة واضحة بمنع التعافي والتفكير في إعادة الإعمار، ويقدّر خسائره في الضربتين بأكثر من 10 ملايين دولار.

في «بورة» تزيد مساحتها على 4 آلاف متر مربّع، كان ابن العائلة صاحبة الباع الطويل في مجالها، يحاول مع عمّاله، فرز بعض ما تبقّى من قطع غيار ومعدّات يمكن الاستفادة منها. وبانتظار استقرار الأوضاع الأمنية نهائياً، فإنّ كنيار لا يفكّر بالشروع في أيّ خطوة جديدة: «ماعاد فيّي افتح مرّة تالتة ويرجع يصير نفس الشي»، لافتاً إلى أن «هناك وعوداً كلامية بالتعويض عن الخسائر... لكن ما شفنا شي بعد»!

كما في أنصارية، كذلك في دير سريان (مرجعيون). يقول خليل كَرِيم (55 عاماً): «انمسحنا على الآخر. ما قادر إعمل شي حالياً». خليل الذي أُصيب في الغارات التي استهدفت مرآبه وأدّت إلى استشهاد عامل سوري وجرح آخر، يقدّر خسائره بمليوني دولار، مع خروج 15 آلية متنوعة بين جرافات وشاحنات من الخدمة نهائياً. والنتيجة؟ «لا عمل ولا بيت ولا سيارة ولا من يعوّضون... كلن راحو»!

ويلفت رئيس بلدية دير سريان علي لوباني إلى أن العدو الإسرائيلي يريد منع الجرافات من إزالة الردم ومن إعادة الإعمار، كما يريد منع كل آلية تفتّش عن جثامين شهداء مفقودين، ولا يتوانى عن ضرب كل ما يعتبر أنه يسهم في عودة الحياة إلى المنطقة الحدودية».

ويقول المهندس رياض الأسعد إن استهداف الجرافات والحفارات «ضرب للإرادة عند الجنوبيين الذين باتوا أكثر قناعة بأن لا يعتمدوا إلا على أنفسهم. هكذا بنوا قراهم وبلداتهم وهكذا حرَّروا أرضهم». ويضيف: «العدو يريد القول لكل الناس بشكل واضح، إن لا إعادة إعمار إلا وفقاً لشروطي». ويشمل ذلك، «حتى الجنوبيين القادرين مادياً على إعادة إعمار منازلهم على نفقتهم. العدو يقول: ممنوع أن تبادروا إلى ذلك».

يريد العدو منع أي مظهر من مظاهر الحياة في القرى والبلدات الأمامية. في بعض الأماكن يمنع الجرافات العاملة مع مجلس الجنوب من مزاولة أعمال رفع الركام، إلا بعد التحقق من تفاصيل دقيقة كما حصل أخيراً بموضوع قطاف الزيتون.

وفي أماكن أخرى «أكثر حساسية»، لا يُسمح بعمل الجرافات والحفارات إلا بمواكبة من الجيش واليونيفل كما في مارون الراس وميس الجبل وغيرهما. استهداف الجرافات «هو بالنتيجة استهداف لعودة الناس وبقائهم في أرضهم، وفقاً ليوسف إسماعيل، عضو المجلس البلدي في بيت ليف (بنت جبيل) مذكّراً باعتداءين من هذا النوع تعرضت لهما البلدة.

عندما تصبح الجرّافة عدوّاً

بعيداً من كونها، بنظر العدو، «شبهة أمنية»، تشكل الحفارات والجرافات على اختلاف أنواعها وأحجامها العمود الفقري للبنى التحتية، وهي مفتاح العمل، إذ إن مراحل إعادة البناء كلها تستند على هذه الآليات، وفقاً لخبراء في مجال الإعمار والبناء.

لكن الباحث العلمي وسيم جابر يذهب أبعد من ذلك في محاولته لتفسير معنى هذا النوع من الاستهدافات. إذ يرى أنها «حرب على الأمل»، موضحاً أنه «في المعادلة الإسرائيلية، الجرافة أخطر من الصاروخ. الصاروخ يقتل الحاضر، بينما الجرافة تبني المستقبل. ولأن إسرائيل لا تريد لجنوب لبنان مستقبلاً، فهي تستهدف الجرافات». يضيف جابر: «الشعب الذي يعود يُسقط مشروع الضم، والقرية التي تُعمّر تُسقط الاحتلال، والجرافة التي تبني تهدم الحلم الإسرائيلي».

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد