ندى عبد الرزاق (صحيفة الديار)
يُعدّ قطاع البريد من أقدم وأعرق مؤسسات التواصل الإنساني المنظم، إذ وُجدت جذوره الأولى منذ آلاف السنين، عندما اعتمدت الإمبراطوريات القديمة، كالإمبراطورية الفارسية والرومانية، على الرسل والخطوط البريدية لنقل المراسلات والأوامر الرسمية. ومع تطور الحضارات، تحوّل البريد من وسيلة نقل رسائل بسيطة إلى شبكة عالمية معقدة، تربط الأفراد والمؤسسات والدول، مما جعله أحد الأعمدة الأساسية في بناء المجتمعات الحديثة وتعزيز التجارة الدولية.
قطاع حيوي "يتهاوى"!
لذلك، تنبع أهمية قطاع البريد من كونه ليس مجرد وسيلة لنقل الرسائل، بل منظومة خدمية واقتصادية تدعم التنمية الشاملة. فالبريد يسهم في الوصول المالي من خلال الخدمات المصرفية البسيطة، وفي الإدماج الرقمي عبر دعم التجارة الإلكترونية، كما يشكّل أداة للعدالة الاجتماعية بتمكين الفئات الريفية والنائية، من الوصول إلى الخدمات الحكومية والمعلومات. ومن اللافت أنّ البريد كان ولا يزال يمثل مؤشرا على تطور الدولة وكفاءتها الإدارية، إذ يعكس مدى قدرة الحكومة على التواصل الفعّال مع مواطنيها.
ويُحتفل باليوم العالمي للبريد رسميا في 9 تشرين الأول، تخليدا لتأسيس الاتحاد البريدي العالمي (UPU) عام 1874 في برن - سويسرا. ويُبرز هذا اليوم التحول من البريد الورقي إلى الرقمي والحلول المتكاملة، ويحمل شعار 2025: "البريد للناس: خدمة محلية، وصول عالمي"، لتكريم القائمين على الخدمة، والتأكيد على أثر التعاون الجماعي عالميا.
ازدحام الفروع وتآكل ثقة المواطنين
بناء على ما تقدم، ومن خلال جولات ميدانية أجرتها "الديار" على عدد من فروع "ليبان بوست" في مختلف المناطق اللبنانية، برزت صورة دقيقة ومقلقة عن واقع هذا القطاع على الأرض. فعلى الرغم من الدور الحيوي الذي يفترض أن تؤديه هذه المؤسسة في تسهيل حياة المواطنين، إلا أنّ المشهد اليومي داخل العديد من الفروع، يعكس حالة من الفوضى التنظيمية والإرهاق الجماعي.
الجدير ذكره ان في معظم المكاتب التي تمت زيارتها، كان المشهد شبه موحّد: طوابير طويلة، وأجهزة "سحب الدور" التي توزّع بطاقات مرقّمة، تصل أحيانًا إلى الرقم 500 في اليوم الواحد، في حين يضطر كثيرون إلى المغادرة قبل إنجاز معاملاتهم، إما بسبب طول الانتظار أو نتيجة انقطاع التيار الكهربائي، الذي يعطّل النظام الإلكتروني المعتمد لتسيير المعاملات.
وفي أحد الفروع في بيروت، قالت سيدة سبعينية لـ الديار: "أتيت البارحة وغادرت دون أن أتمكن من إنجاز معاملتي، لأن الصناديق أُغلقت عند الرابعة، رغم أن الدوام الرسمي يمتدّ حتى الخامسة". هذه الشهادة ليست استثناءً، بل تعبّر عن تجربة يومية متكررة لكثير من المواطنين الذين يجدون أنفسهم أمام مؤسسة مثقلة بالضغط البشري، وضعف الموارد، وغياب التنسيق الإداري.
في جميع الأحوال، تثير تلك المشاهدات تساؤلات جوهرية حول كفاءة الإدارة التشغيلية في "ليبان بوست"، وحول مدى خضوعها لرقابة الدولة أو لسياسات تحسين الجودة. فالمؤسسة التي يفترض أن تكون واجهة حديثة للدولة اللبنانية في مجال الخدمات العامة، تحوّلت في نظر كثيرين إلى مثال على الجمود البيروقراطي وسوء التنظيم. والأخطر من ذلك أنّ هذا الارتباك اليومي يؤثر سلبا في ثقة المواطن، بقدرة المرافق العامة أو شبه العامة على خدمته بكرامة واحترام لوقته، وهو ما يضرب جوهر مفهوم الخدمة العامة في أساسه.
شلل المرافق العامة "متعمّد"
وفي سياق المتابعة الميدانية، تواصلت "الديار" مع الآنسة آية، وهي موظفة في أحد فروع "ليبان بوست"، للسؤال عن أسباب الازدحام الشديد وامتعاض المواطنين من الانتظار الطويل. وخلال الزيارة نفسها، لاحظت "الديار" أن عشرات المواطنين ينتظرون في القاعة منذ ساعات، دون أن يتمكنوا من إنجاز معاملاتهم، في حين بدت معظم الصناديق خالية من الموظفين أو مغلقة رغم ازدحام المكان.
وعند سؤالها عن هذه الفوضى التنظيمية، أجابت: "الأمور تحتاج إلى القليل من الوقت لإعادة تسييرها كما يجب، ونحن نحاول قدر المستطاع العمل ضمن الإمكانات المتاحة".
وعن خدمة تسيير جوازات السفر، أوضحت آية أن الخدمة "قيد التحضير وستبدأ قريبا، لكننا لم نبدأ بها فعليا بعد".
في إطار متصل، كان لافتا أيضا التباين الكبير في كلفة الخدمات، بين ما يقدمه البريد وما تتقاضاه المراجع المحلية. فمثلًا، تبلغ كلفة استخراج إخراج القيد الفردي أو العائلي عبر "ليبان بوست" نحو مليون وسبعمئة وخمسين ألف ليرة لبنانية، بينما يتقاضى المختار على الخدمة ذاتها ما يقارب خمسة ملايين ليرة لبنانية، ما يجعل الخدمة البريدية أكثر عدالة وسهولة من الناحية المادية، ولو أنّ بطئها الإجرائي لا يزال يشكّل عقبة أمام رضا المواطن.
ومن هذا المنطلق، تكشف هذه المشاهدات والمقابلات الميدانية ، أن الأزمة في "ليبان بوست" ليست فقط أزمة إدارة تشغيلية، بل أزمة بنيوية تتعلق بغياب التخطيط الحديث وتوزيع الكادر الوظيفي، وبافتقاد آلية رقابية فعالة تضمن التزام الفروع بالمعايير الزمنية والتنظيمية المفروضة.
من هنا، يمكن القول إنّ الفوضى التنظيمية اليومية هي انعكاس مباشر لضعف السياسات العامة في هذا القطاع، الذي يمكن – لو أُصلح – أن يشكّل أحد أعمدة الدولة الحديثة في لبنان.
لمحة عن الأسعار
على ارض الواقع، حصلت "الديار" على لائحة حديثة بتفاصيل الاسعار التي يتقاضاها "ليبان بوست" ، لقاء إصدار إخراج القيد الفردي أو العائلي، بحيث جاءت على الشكل الآتي:
- أجر "ليبان بوست": 630,630 ليرة لبنانية.
- الطوابع المالية: 800,000 ليرة لبنانية.
- أجور إضافية عن كل فرد: "دليفري بلس" 90,090 ليرة لبنانية
- رسالة قصيرة (SMS) لإشعار المواطن عند الجهوز: 45,045 ليرة لبنانية
- ضريبة القيمة المضافة (11%): 94,145 ليرة لبنانية.
تمديدات متتالية ومناقصة مؤجلة
على المستوى الرسمي، تقول مصادر سياسية مطلعة لـ "الديار" انه "من خلال تتبّع مسار ملف "ليبان بوست" خلال السنوات الأخيرة، يتبيّن أنّ هذا القطاع يعيش حالة من الفراغ القانوني المقنّع، حيث انتهى العقد الأساسي الموقع بين الدولة اللبنانية والشركة المشغّلة منذ سنوات، لكن لم تُنجز حتى اليوم مناقصة شفافة ونهائية، لتحديد الجهة الجديدة التي ستتولى إدارة البريد الوطني. ورغم تعدد الوعود بإطلاق تلزيم جديد، إلا أنّ الواقع الميداني يُظهر أن الأمر لا يزال يراوح مكانه، بين التمديد المؤقت والمساومات الإدارية".
وتضيف المصادر: "في منتصف عام 2023، كانت الحكومة قد فتحت الباب أمام تلزيم جديد، فتقدّمت مجموعة شركات أبرزها تحالف Merit Invest – Colis Privé، التابع لمجموعة CMA-CGM الفرنسية، بعرضٍ لتولّي إدارة البريد. وبالفعل، فاز هذا التحالف بالمناقصة مبدئيا في تموز 2023، غير أنّ ديوان المحاسبة وهيئة الشراء العام رفضتا العطاء لأسباب قانونية وتقنية، منها عدم تطابق العرض مع دفتر الشروط، وضعف الضمان المالي المطلوب، ما أدى إلى تجميد النتائج وإلغاء التلزيم فعليا".
وتكشف المصادر: "أمام هذا التعثّر، لجأ مجلس الوزراء اللبناني في نهاية عام 2023 إلى تمديد العقد مع "ليبان بوست" لفترة إضافية، على أن يستمر العمل بموجب الشروط القديمة، ريثما يُستكمل إعداد مناقصة جديدة. إلا أن هذا "التمديد المؤقت" تحوّل عمليا إلى تجديد فعلي بلا مناقصة، وسط غياب جدول زمني واضح لتسلّم أي مشغّل جديد. وقد أثار هذا الإجراء انتقادات واسعة من جهات اقتصادية وقانونية، رأت فيه تكريسا لاحتكارٍ مقنّع واستمرارا لنهج "التمديد بدل الإصلاح، خصوصا أن العقد لم يُعدَّل بما يضمن زيادة حصة الدولة من الإيرادات أو تحديث شروط الخدمة".
وتوضح المصادر أنّ "الحكومة كانت قد طلبت إعادة التفاوض مع "ليبان بوست" لتحسين شروط العقد، عبر رفع العائدات المحوّلة إلى الخزينة، وزيادة بدل إيجار المكاتب البريدية التي تستخدمها الشركة، لكن هذه التعديلات لم تُفعّل حتى الآن. في المقابل، لا توجد أي مؤشرات عملية على أن شركة جديدة ستتسلّم قريبا، رغم مرور أكثر من خمس سنوات على بدء النقاش حول إعادة تلزيم القطاع".
نحو بريد وطني حديث يخدم الدولة والمواطن
بالمحصلة، إنّ قطاع البريد في لبنان يقف اليوم عند مفترق حاسم بين البقاء في دائرة التمديد والعجز الإداري، أو الانتقال إلى مرحلة جديدة تُعيد له مكانته كأداة للتنمية الوطنية. في المقابل، لا يزال البريد اللبناني يعمل ضمن نموذج تسعيني، لم يُحدّث بما يتناسب مع التحولات التكنولوجية والإدارية الراهنة. لذلك، فإنّ أي خطة إصلاح حقيقية، يجب أن تبدأ من تحرير القطاع من الاحتكار، ووضعه في إطار تنافسي شفاف، يخضع لرقابة هيئة مستقلة، مع إعادة تعريف دوره كجهاز عام يخدم التنمية، وليس كمؤسسة ربحية بحتة.
إضافة إلى ذلك، يجب أن يُعاد توجيه مكاتب البريد، لتصبح مراكز خدمات حكومية شاملة (One-Stop Government Points)، تُنجز من خلالها معاملات الهوية والإخراجات والتراخيص وجوازات السفر ضمن بيئة رقمية موحدة، بما يخفف الضغط عن الوزارات، ويوفّر الوقت على المواطن. إشارة الى ان جميع معاملات وزارة الخارجية تنجز حاليا عبر "ليبان بوست". أما على المستوى اللوجستي، فيمكن للبريد أن يشكّل العمود الفقري للتجارة الإلكترونية المحلية ، من خلال شراكات ذكية مع القطاع الخاص، واعتماد أنظمة تتبع رقمية دقيقة.