اوراق خاصة

أفريقيا عند مفترق طرق مصيرية ونيجيريا في قلب العاصفة

post-img

معتز منصور/ باحث سياسي

تشهد القارة الإفريقية اليوم إحدى أكثر مراحلها حساسية، منذ نهاية الحرب الباردة. على امتداد جغرافي واسع، من خليج غينيا إلى القرن الإفريقي، تتقاطع المصالح الدولية والإقليمية في معركة غير معلنة على الموارد والممرات والنفوذ. لم تعد القارة ساحةً هامشية في الاستراتيجيات الكبرى، لقد تحوّلت إلى محور تنافس محموم بين قوى صاعدة وأخرى تخشى الأفول.

وسط هذا المشهد، تبرز نيجيريا أهم عقدة في معادلة الأمن القومي الإفريقي، وساحة اختبار بين قوى الداخل وضغوط الخارج. هي تمثل أكبر اقتصاد إفريقي بناتجٍ محلي قارب، في العام 2025، 490 مليار دولار، وتضمّ أكثر من 226 مليون نسمة، أي ما يعادل خُمس سكان القارة، إلى جانب احتياطٍ نفطي يتجاوز 36 مليار برميل، وغازٍ طبيعيٍ يُعدّ من الأكبر في إفريقيا.

غير أن هذه الوفرة لم تتحوّل إلى استقرار؛ فالدولة التي وُصفت يومًا بأنها "عملاق إفريقيا النائم" تواجه تحديات معقّدة: تصاعد الإرهاب في الشمال الشرقي بفعل تمدّد تنظيم "بوكو حرام" وفروع "داعش" وتنامي التوترات العرقية والمذهبية في مناطق الجنوب، إضافة إلى ضغوط اقتصادية حادة ناجمة عن تقلّبات أسعار الطاقة وضعف البنى التحتية.

لكنّ الأخطر هو ما يجري في الكواليس. إذ تتجه أنظار القوى الغربية مجددًا نحو نيجيريا لكونها ركيزة لضمان خطوط إمداد آمنة عبر خليج غينيا، بعدما كانت مجرد مصدر لطاقة بديل في ظل التوترات الشرق أوسطية. وتشير تقارير مؤسسة بروكينغز (Brookings, 2024) ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS, 2023) إلى زيادة ملحوظة في الوجود الاستخباراتي والعسكري الأمريكي والبريطاني هناك، بذريعة مكافحة الإرهاب وحماية الملاحة، بينما يرى مراقبون أن الأمر يتجاوز ذلك إلى إعادة هندسة النفوذ، في غرب إفريقيا، بعد سلسلة الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

كما توثّق مؤسسة RAND (2023) تنسيقًا متناميًا بين القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (AFRICOM) والقوات النيجيرية لتوسيع التعاون البحري والاستخباراتي في خليج غينيا. في حين تذهب تحليلات وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة للإيكونوميست (EIU, 2025) إلى أن واشنطن ترى في نيجيريا محورًا بديلًا محتملًا لإمداد أوروبا بالغاز، وهو ما يفسّر الإلحاح الأمريكي على تثبيت نفوذها الأمني هناك.

في المقابل؛ تتحرك قوى أخرى على المسرح ذاته. روسيا، عبر مجموعة "أفريكا كور"، والتي خلفت "فاغنر"، تسعى إلى تثبيت حضورها الأمني في الساحل، فيما تستثمر الصين بقوة في مشاريع البنية والطاقة ضمن مبادرة "الحزام والطريق" لتتحول نيجيريا إلى ساحة تنافس شرس بين أقطاب العالم.

مع أن هذه المنافسة تبدو ظاهريًا اقتصادية، إلا أنها تحمل في عمقها أبعادًا تتصل بالأمن القومي الإفريقي ككل. إذ إن إضعاف مركز نيجيريا يعني فتح ثغرة خطيرة في الجدار الجنوبي للقارة، بما يتيح اختراقات في الأمن الإقليمي، تمتد من خليج غينيا إلى البحر الأحمر. كما أن اهتزاز استقرار نيجيريا ينعكس مباشرة على دول الجوار؛ مثل تشاد والكاميرون والنيجر، ما يخلق فراغًا أمنيًا يسهل توظيفه في صراعات النفوذ.

بناء على ما تقدم؛ تبرز الحاجة إلى مقاربة جديدة للأمن القومي الإفريقي لا تُختزل في الجانب العسكري فحسب، تشمل أيضًا الأمن الاقتصادي والغذائي والبيئي والمجتمعي. إذ إن القارة، والتي تمتلك 30% من ثروات العالم المعدنية وأكثر من 60% من الأراضي الزراعية غير المستغلة، ما تزال تعاني هشاشة مؤسساتها الاتحادية وضعف التنسيق بين تكتلاتها الإقليمية؛ مثل الاتحاد الإفريقي والإيكواس والكوميسا.

إن بناء أمن إفريقي مستقل يتطلب أولاً كسر التبعية في مجالات الطاقة والبنية والتمويل، وتعزيز آليات الدفاع المشترك التي ما تزال في طور التصور. كما يتطلب وعيًا عربيًا بأن ما يجري في نيجيريا أو في غرب إفريقيا ليس شأنًا إفريقيًا بحتًا، هو قضية تمسّ الأمن القومي العربي في جوهره، بحكم الترابط الجغرافي والممرات الحيوية من البحر الأحمر إلى الأطلسي.

لقد أدركت القوى الكبرى أن من يملك إفريقيا يملك مفتاح المستقبل، وأن السيطرة على مواردها وأسواقها توازي السيطرة على خريطة النفوذ العالمي. أما إفريقيا، فإن لم توحّد رؤيتها الأمنية والتنموية، فستظل أرضًا تتنازعها القوى وتستهلكها الأزمات.

لعل نيجيريا، اليوم، تمثل اختبارًا حقيقيًا لهذا الوعي الإفريقي الجديد: هل تبقى رهينة لتوازنات الخارج أم تنجح في فرض نموذجٍ يعبّر عن مصالح شعوبها؟

الإجابة ستحدّد، من دون مبالغة، شكل القارة لعقودٍ مقبلة

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد