محمد وهبة (صحيفة الأخبار)
يعقد مجلس الوزراء اليوم وغداً جلستين لمناقشة مشروع «قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع»، تمهيداً لإقراره وإحالته إلى مجلس النواب. مضمون المشروع لم يكن مُرضِياً لأيّ من الأطراف المرتبطة به، ولا سيما لأصحاب المصارف والمودعين وصندوق النقد الدولي أيضاً. صحيح أن المشروع راعى ملاحظات صندوق النقد بشأن تراتبية الخسائر، لكنه أهمل ملاحظات أخرى وترك الكثير من البنود مُعرّضة للاستنسابية لأنها ستصدر بموجب مراسيم تنفيذية أو بواسطة تعاميم مصرف لبنان، كما أن المودعين رأوا فيه شطباً غير مبرّر لنسبة كبيرة من ودائعهم، ما دفع بعض جمعيات المودعين إلى التصعيد والتحرّك في الشارع، فيما أطلقت جمعية المصارف حرباً مضادّة عليه من أجل فرض تعديلات، أبرزها ما يتعلق بتصفية الرساميل، وقرّرت أن تعقد اجتماعاً طارئاً مساء أمس لاتخاذ قرار بشأن التصعيد ضدّ القانون بحضور مستشارها المالي «أنكورا» الذي أعدّ لها تقديراً لمفاعيل تطبيق الصيغة المُعدّة لمشروع القانون.
بدا كأنّ مُعدِّي مشروع قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع، يبحثون عن تسوية ما، بين تحميل أصحاب المصارف مسؤولية كبيرة تجاه الأزمة، وقدرة الدولة المتدنّية على تحمّل مسؤولية تجاه أصحاب الودائع.
فقد أُدرجت هذه «التسوية» في مضامين القانون على شكل إهمال أو شطب كل ما يمكن أن يؤدّي إلى محاسبة مساهمي المصارف وإداراتها بسبب ممارستهم لسوء الائتمان والتفريط في الودائع، في مقابل تجرّع كأس تصفية الرساميل وقبول الأمر الواقع بإعادة الرسملة كضرورة لإحياء هذه المؤسّسات مجدّداً.
والواقع، أن المصارف اعتبرت أنْ لا مجال لطرح تسوية كهذه على الطاولة لأنها لا ترى نفسها مسؤولة أصلاً، ولأنها تتحمّل بموجب هذا المشروع جزءاً أساسياً من المسؤولية والخسائر. فقد دأب أعضاء جمعية المصارف على إطلاق تصاريح مفادها أن «الأزمة نظامية» وأن الدولة (مصرف لبنان ووزارة المال) أخذت الأموال وسرقها السياسيون، وأن المصارف كانت مُجبرة على القبول بذلك، لأنه أمر مفروض عليها من قوى السلطة السياسية.
وعلى هذا الأساس قرّرت الجمعية أن تعقد مساء أمس اجتماعاً بحضور مستشارها المالي «أنكورا» لمناقشة المشروع ومفاعيله على المصارف ورسم خطّة للتعامل معه في مجلس الوزراء وعند إحالته إلى مجلس النواب من خلال صياغة بيانات موجّهة بشكل أساسي إلى المودعين الذين ستُشطب ودائعهم.
المشكلة أن السردية التي روّجت لها المصارف ظلّت قائمة من دون أي تفكيك. والتعريفات الغربية لمفهوم «أزمة نظامية» تتفق على أنها أزمة تنتقل على شكل عدوى من جهاز إلى آخر أو أن العدوى تصيب أجهزة متنوّعة ومترابطة داخل الدولة.
وهذا لا يعني أبداً أن منشأ الأزمة هو الدولة، وأن الأزمة انتقلت بالعدوى إلى مصرف لبنان ثم المصارف لتصيب المودعين، بل بالعكس، فإن هذا المفهوم ببُعده السياسي، يفيد بما لا يرقى إليه شكّ، بأن كل من هو جزء من النظام ستصيبه العدوى أو الخسارة، وأن المصارف التي تمثّل ركناً أساسياً من نظام قام على استقطاب التدفّقات من الخارج واستعملها لتمويل استهلاك مستورد، ما أدّى إلى تبديدها وإلى نهبها ضمن قنوات التوزيع بين الدولة والمصارف، فرّطت في أموال المودعين لتغطية عجز نظام هي جزء منه ينتفع منها وتنتفع منه.
هكذا بدا أن امتناع السلطة عن التعامل مع هذه السردية، كان هدفه إيجاد مساحات مشتركة مع المصارف. من أبرز المساحات المشتركة بينهما أن لا أحداً يريد الدخول إلى السجن بأي تهمة، ولا سيما أن تجربة اتّهام واعتقال الحاكم السابق رياض سلامة بتهم فساد وهدر مال عام ماثلة أمام الجميع.
لكنّ المصارف تعاملت مع التسوية التي يطرحها مشروع القانون، والتي روّج لها حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، بأنها تحصيل حاصل، إذ ترى أن هناك حاجة إلى إحياء القطاع المصرفي، مردّها إلى أن الأميركيين يطلبون ذلك في سياق مكافحة اقتصاد الكاش وتجفيف مصادر تمويل حزب الله، وأن الاقتصاد في لبنان لا يمكن أن يتحرّك بلا المصارف، وبالتالي لا يمكن زجّ أصحاب المصارف في السجون أو في محاكمات جزائية على شبهات ارتكاب تتعلّق بتبديد أموال المودعين.
ولأسباب مختلفة، وقف صندوق النقد الدولي مدافعاً عن المفاهيم التي يكرّسها في معالجة الأزمات وأبرزها مبدأ تراتبية توزيع الخسائر لتبدأ الرساميل بالتآكل أولاً، وإن كان الصندوق يمثّل بُعداً سياسياً بغرض تشديد الحصار المالي على لبنان ربطاً بملف «نزع السلاح».
على هذا الأساس، قرّرت المصارف أن تتصرّف. وهي قبل إنجاز مسوّدة مشروع القانون، ألمحت أمام مسؤولي وزارة المال إلى أن شطب رساميلها أولاً وفق مبدأ الصندوق، سيدفعها نحو التصعيد وربما تنفيذ إضراب. لكنّ المصارف نفسها منقسمة على أكثر من ذلك.
فمن جهة يرى بعض أصحاب المصارف أنه يمكن التعامل مع مشروع القانون باعتباره بداية للتفاوض، ولا سيما أن المشروع لن يصبح نافذاً عند إقراره في مجلس الوزراء ويمكن إدخال تعديلات عليه في اللجان النيابية، أو حتى عبر مشاريع قوانين مُلحقة، فضلاً عن أن المشروع يحمّل مصرف لبنان 60% من تسديد ودائع بقيمة تصل إلى 20 مليار دولار، ويفرض على الدولة تغطية أي خسائر إضافية في رأسمال مصرف لبنان، ويحمّل مصرف لبنان 80% من أصول الشهادات المدعومة بأصول أبرزها الذهب، والتي سيصدرها مقابل 40 مليار دولار من الودائع.
ومن جهة ثانية، يعتقد مصرفيون آخرون أن الفرصة سانحة للانقضاض على المشروع في مهده «بلا وجع رأس لاحق» تحت عنوان أن «إحياء القطاع، وهو أمر ضروري لمراعاة ما يطلبه الأميركيون، لا يمكن أن يمرّ عبر منطق التصفية، ولا يمكن احتساب الـ10 مليارات دولار التي يملكها مصرف لبنان في حسابات السيولة بالعملة الأجنبية إلّا ضمن حصّة المصارف التي ستدفعها للمودعين فوق حصّتها في شطب الرساميل».
بيانات جمعية المصارف لن تعكس هذا الجو، بالعكس ستعمد إلى صياغة مبنية على المساحات المشتركة بين المصرفيين، وربما ستضغط من أجل فرض الحوار معها في الحكومة ومجلس النواب، لكنها لن تلجأ إلى التصعيد والإضراب. أصلاً المصارف لا تتحمّل كلفة الإضراب، لذا قرّرت أمس أن تبتعد عن الإضراب كوسيلة للتعامل مع مشروع قانون الانتظام المالي. فهي ما زالت جزءاً من النظام ويمكنها أن تمارس نفوذاً أكبر من داخله لا في الشارع حيث لا تملك أيّ شرعية.
■ «قانون الفجوة» ناقص بغياب المحاسبة
أعدّ المحامي كريم ضاهر مجموعة من الملاحظات على مشروع «قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع»، محورها أن المشروع لم يتضمّن أي خطوات تندرج في إطار المحاسبة، لذا يرى فيه أنه خطوة «جريئة» لكنها «منقوصة».
ويعتقد أن المشروع تضمّن محاولة لتأمين أكبر قدر من العدالة في توزيع الخسائر والتقيّد بما أوصى به صندوق النقد الدولي، ولا سيما لجهة تطبيق مبدأ تراتبية توزيع الخسائر بدءاً بمساهمي المصارف، بالإضافة إلى توسيع نطاق ردم الفجوة المالية لتشمل تحويلات أصحاب المصارف وكبار موظفيها والأشخاص المعرّضين سياسياً والزيادة في الحسابات التي نتجت من تجارة الشيكات أو تحويل من الليرة إلى الدولار وفق أسعار صرف أدنى من سعر السوق، والفوائد المدفوعة مُسبقاً على عمليات الهندسات المالية، والقروض المُسدّدة بأقل من قيمتها، وصولاً إلى الحسابات غير المشروعة.
رغم ذلك، لم يتطرّق المشروع إلى أصحاب الودائع بالليرة ويترك هامشاً كبيراً من الحيّز التقريري والتقييمي لمصرف لبنان. وبالنسبة إليه تبقى مسألة هدر المال العام واسترداد الودائع المشروع أمراً أساسياً حتى لا يكون هذا المشروع «طائفاً اقتصادياً» بمعنى أنه «يعفو عن الجرائم المالية».
في ما يأتي ملخّص للملاحظات الأولية التي أعدّها ضاهر:
نطاق تطبيق القانون
خلافاً لما يُسوّق، فإن المادة الثالثة من المشروع، ولأول مرّة، تُدخل الدولة في عداد الأطراف الذين يُطبّق عليهم القانون ويُلزِمهم (بالتكافل والتضامن) بتحمّل المسؤوليات والالتزامات الناتجة منه، وأهمها الاعتراف بالمسؤولية والدين. ومن شأن ذلك تكبيد موازنات الدولة اللاحقة أعباء أبرزها سدّ عجز مصرف لبنان عند الاقتضاء عملاً بأحكام المادة 113 من قانون النقد والتسليف، والمُطالب بها من قبل جمعية المصارف.
وتضمّنت هذه المادة أيضاً، عبارة أن القانون يُطبّق على «جميع الحسابات بالعملات الأجنبية المتكوّنة لدى مصرف لبنان والمصارف المذكورة قبل تاريخ 17/10/2019»، وبالتالي إذا طُبّق النص حرفياً، يكون قد استثنى من الضمانة والتدابير، الحسابات التي تمّ تكوينها وفتحها لدى المصارف بعد ذلك التاريخ وإنما بشيكات مصرفية من أرصدة محجوزة (لولار). وعليه، يقتضي إضافة هذا الموضوع صراحةً في النص.
الأصول غير المنتظمة
من ضمن الفئات التي ستُطبّق بحقها تدابير صارمة، يلحظ القانون فئة «الحسابات المُشتبه في صحة هوية المُستفيد الحقيقي منها و/أو الحسابات المُشتبه في مصدر أموالها... ولا سيما تلك المُشتبه في تضمّنها أموالاً غير مشروعة».
إلا أن الغريب والمُستغرب أن القانون أناط أمر تحديدها والإبلاغ عنها بكل من المصارف (المتواجدة لديها هذه الأرصدة) وهيئة التحقيق الخاصة المُنشأة لدى مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، للتأكّد من صحة التنفيذ... أي الفرقاء أنفسهم الذين أتاحوا أو تقاعسوا وسمحوا بدخول هذه الأرصدة إلى القطاع المصرفي خلافاً لقانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب الرقم 318/2001 والمُعدّل بالقانون الرقم 44/2015. فمن يصدّق بأن هذه العملية ستُنفّذ بشفافية مطلقة؟ لذا، كان يجدر إشراك الأجهزة المختصة بمواضيع الفساد والمراقبة الإدارية على غرار الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ووزارة المال (بالنسبة إلى التهرّب الضريبي) والقضاء المالي والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة أو أحدهم؛ وذلك، لضمان الالتزام والشفافية.
إجراءات تنقية الأصول غير المنتظمة
بالنسبة إلى التحويلات المصرفية إلى الخارج بعد تاريخَي 17/4/2019 و17/10/2019 (وفقاً للحال)، ونظراً إلى عدم وجود أي قانون في حينه يضع ضوابط مؤقّتة واستثنائية على التحاويل والسحوبات المصرفية (Capital Control)، وبالتالي عن مخالفة أي نظام قائم، فلا يمكن تسمية النسبة العقابية المُطبّقة (30%) على أنها «غرامة» ناتجة من التخلّف، وكان من الأجدر تصنيفها في خانة الرسم الاستثنائي أو الرسم التعاضدي.
وبالنسبة إلى الحسابات التي تقاضى عليها أصحابها فوائد مدفوعة مُسبقاً نتيجة الهندسات المالية و/أو أي فوائد دُفعت بدءاً من عام 2016، يقتضي حفاظاً على مبدأ العدالة والمساواة تنظيم مسألة استرداد ما تمّ تحويله إلى الخارج ضمن الفترة المُمتدة من 1/1/2016 إلى 17/10/2017 وفي حال عدم التقيّد، تُطبّق التدابير والغرامات نفسها المفروضة بالنسبة إلى باقي الفئات مع أوامر تحصيل صادرة عن وزارة المال عملاً بأحكام قانون الإجراءات الضريبية الرقم 44/2008.
آلية تسديد الودائع
يتبيّن أن عهد السحوبات النقدية ولّى إلى غير رجعة، واستُبدل بالشمول المالي، بدليل الإشارة إلى وضع المستحقات في حسابات حرّة تُستعمل بموجب شيكات أو حوالات مصرفية أو بطاقات ائتمانية. وعليه، من الضروري تشديد الرقابة على المصارف لتفادي إفراطها، كما هي الحال حاضراً، بفرض عمولات وأعباء اعتباطية ومُجحِفة كما هي الحال منذ حجز الودائع لديها، ولا سيما أن المودع سوف يبقى مرتبطاً بها قصراً طوال مرحلة إعادة ودائعه.
وخلافاً لما يوصي به صندوق النقد الدولي، اعتمد المشروع تعريفاً وسقفاً موحّداً قيمته 100 ألف دولار لكل مودع على مستوى النظام المصرفي ككل، وليس بمقاربة «مصرف بمصرف» لضمان عدم تحميل المصارف السليمة أعباء المصارف المتعثّرة وتأمين تكافؤ الظروف والفرص بينها.
تحديد دين الدولة تجاه مصرف لبنان
يمكن لمجلس الوزراء تقديم مساهمة إضافية في رأسمال مصرف لبنان عند الاقتضاء، من أجل تعزيز ملاءته، وفقاً للمادة 113 من قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي. وهذا يستدعي ملاحظتين: الأولى، تتعلق بحصر تلك الصلاحية بالسلطة التشريعية التي يحق لها حصراً تقرير أو إعطاء الموافقة المُسبقة (وعادةً بموجب رصد اعتماد في الموازنة) لأي إنفاق أو عبء وفرض الضرائب. أما الثانية، فتتعلّق بنتائج هذا الالتزام كونه سيحمّل الدولة مسؤولية أي تقاعس أو إخلال في الالتزام وإعادة تسديد الودائع، بالتكافل والتضامن مع مصرف لبنان والمصارف؛ وهذا ما يتعارض مع توصيات صندوق النقد الدولي ويؤثّر على استدامة الدين العام، ويحمّل وزر إعادة تسديد الديون المترتّبة (خاصة لكبار المودعين) للمكلّفين (من مقيمين ومواطنين، والمودعون جزء أساسي منهم) ولأجيال قادمة. ناهيك عن تمكين أصحاب الودائع المُحوّلة إلى أوراق مالية قابلة للتداول ومدعومة بأصول حقيقية (مثل الذهب والعقارات) من مطالبة المصرف المركزي والدولة بتصفية تلك الأصول.