اوراق خاصة

اليسار العربي المقاوم...الغائب الحاضر في اللحظة الحرجة الراهنة

post-img

إيهاب شوقي/ كاتب مصري

شكّل تراجع الدعم الشعبي والسياسي العربي للمقاومة وللقضية الفلسطينية، في السنوات الأخيرة، خذلانًا كبيرًا للشعب الفلسطيني وللشعوب المقاومة التي تقدم التضحيات، وتتمسك بجمر الثوابت والكرامة في مرحلة تاريخية حرجة شهدت انسلاخًا رسميًا كاملًا، بل ومسارًا تطبيعيًا على الرغم من إجراءات العدو التصفوية والمعركة الصفرية التي يخوضها بغرض ابتلاع كامل الحقوق العربية.

لكن المفاجأة غير السارة تمثلت بهذا الغياب مع "طوفان الأقصى" وحرب الإبادة التي شنها الكيان الصهيوني بقيادة أمريكية صريحة، والتي من المفترض أن تعيد الزخم، وتبعث الحياة في الشعوب والتيارات السياسية، لاسيما قوى اليسار العربي التي ناضلت على مدى عقود لاستعادة الحقوق ومواجهة الهيمنة والرجعية.

إن كان هناك أعذار تلتمس للشعوب بدعاوى الفقر والمعاناة والتغييب والاختراق الثقافي، فإن هذه الاعذار لا يمكن قبولها وتفهمها في تيارات سياسية ونخب ثقافية؛ لاسيما اليسار العريض الذي اتسم تاريخه بالنضال. وكانت مواجهة الاختراق والتغييب والفقر قضيته، وكانت التوعية والتثوير وحشد الشعوب لمواجهة الاستعمار مهامه الرئيسة.

في هذا الصدد؛ من حقنا ان نسأل أين دور اليسار بتنويعاته القومية والناصرية والماركسية، والتي توحدت على القضية الفلسطينية تحديدًا منذ النكسة في العام 1967، بعيدًا عن المتايزات والخلافات السابقة التي رافقت النكبة وشهدت بعض الانقسامات.

عندما توحد اليسار على القضية ودعم المقاومة؛ كان السبب المباشر هو الشعور بالخطر الحقيقي على القضية ونذر تصفيتها بعد هزيمة الجيوش التي قارعت العدو وأميركا والرجعيات العربية التي تحالفت مع الاستعمار. هذا بعد اتضاح الهدف الاستعماري الصريح ونمطه الاستيطاني الإحلالي وتشكيله رأس حربة للهيمنة العالمية بما لم يترك بندًا للخلاف أو الانقسام بين قوى اليسار.

استمر نضال اليسار بأشكال المقاومة الثقافية والفنية والاحتجاجية جميعها؛ وصولًا إلى الكفاح المسلح والانضمام لصفوف الفدائيين. الأهم من ذلك؛ هو ذوبان الخلافات الجذرية بين اليسار وبين تيارات إسلامية تبنت خيار المقاومة. إذ طغت أولوية المقاومة على هذه الخلافات، واستطاعت توحيد الاسلاميين "المقاومين" مع اليسار، وشاركوا معًا في فعاليات دعم المقاومة، وكانت قضية التحرير على قمة أولويات أجندتهم النضالية.

اللافت والمحزن، في الوقت نفسه، أن مسار وضع القضية المتصاعد في الخطورة والقلق تزامن مع المسار الهابط لوحدة اليسار وزخمه وقوة تضامنه مع القضية.. إذ استمر النضال في الخفوت بما يشبه الاستسلام أمام أمر واقع، أو فقدان الدوافع، وكأنه يأس وانعدام الجدوى!

لذلك؛ لا بد أن يقف اليسار مع نفسه وقفة لازمة تماثل ما يعرف في العسكرية بـ"الوقفة التعبوية"، لمراجعة حساباته والإجابة الصادقة عن سؤالين محددين:

الأول: هل نحن منتمون حقا إلى اليسار ومبادئه المنحازة للمهمشين والمواجهة للظلم والهيمنة والرجعية والمؤمنة بالتحرر الوطني وحتمية المقاومة؟

الثاني: يترتب على الإجابة الأولى اذا كانت بنعم، وهو: هل حقا نحن أحياء، ونمتلك إرادة أم أننا ورثنا إيمانًا بلا عمل أو فقدنا القدرة على ترجمة المبادئ إلى واقع نضالي؟

إن كل مؤمن بقضايا العدل والحرية، في اليسار العريض بتنويعاته القومية والناصرية والماركسية، يعلم جيدًا أن هذه المبادئ تشكلت في استجابة لتحديات الظلم والفساد والاستعمار والنهب. والإنتماء لليسار ليس وجاهة اجتماعية؛ بل تكليف بالنضال له كلفة وتبعات، ولا معنى للانتماء من دون عمل. وكل مناضل وكل قدوة ورمز يتبعه اليسار؛ كان يعمل ضد التيار، وفي ظروف مشابهة، قد تكون أصعب من الواقع الراهن.. واليأس والخذلان وانعدام الجدوى لم تكن يومًا في حسابات المناضلين والمقاومين؛ وإلا ما كانوا انخرطوا في العمل والنضال.

كما أن الأعذار والمسوغات التي حاول البعض تسويغ تقاعسه بها، من نوعية الانقسام الفلسطيني أو سيطرة تيارات غير يسارية على المقاومة، لم تعد موجودة بعد إعلان تنفيذ "إسرائيل الكبرى" والإعلان الصريح عن تصفية القضية ووقوع المنطقة بالكامل تحت الاستعمار بأشكاله المختلفة، فضلًا عن أنها لم تكن مسوغات من الأساس؛ لأن القضية قضية شعوب وقضية حقوق، ولا تسوغ الخلافات أي تقاعس عنها.

اليوم هناك ثلاث حقائق جلية. الأولى: أن هناك مشروع استعمار واستعباد معلن. والثانية، أن هناك تيارات تعلن انتمائها لليسار وللإسلام المقاوم. والثالثة أن هناك حركات مقاومة على الأرض تعلن صمودها وتمسكها بالثوابت والكرامة وتقديم التضحيات الى النهاية. وهناك حقيقة رابعة تحتاج الى تأكيد، وهي تتعلق بإرادة التيارات التي تعلن انتماءها للتحرر في اليسار والإسلام المقاوم، هل هناك هذه الإرادة أم انعدمت بما يحوّل المنتمين إلى مجموعات يائسة وأقرب للموت من الحياة؟

لا يمكن أن يشكك أحد في تضحيات اليسار وتاريخه النضالي؛ ولكن كل ما يمكن قوله إن المرحلة الراهنة هي الأكثر أهمية والأكثر احتياجا لبعث الحياة واستئناف النضال، وفي أضعف الإيمان دعم المقاومة إن لم تكن الظروف مهيأة للانخراط بها عمليًا.

إن الإنكار بالقلب أفضل من الرضا بالظلم؛ ولكنه غير كاف في هذه المرحلة، الكتابات والظهور الإعلامي والتدوين على مواقع التواصل نوع من النضال والتوعية وأمر محمود، ولكنه لا يكفي لمواجهة شراسة الهجمة واستراتيجية التصفية. المطلوب هو على الأقل العودة لزخم الفعاليات ودفع الأنظمة لاتخاذ مواقف أكثر صلابة من دون صدام مع الأنظمة أو تخريب وإيصال صوت الرفض وإيصال رسالة الوجود. لعل الأنظمة تكبح الاندفاعة الاستسلامية، وتجد ما يسوغ عرقلتها للتصفية أمام الضغوط بذريعة وجود ضغوط شعبية وسياسية داخلية!

هي دعوة للاستنهاض؛ وليست للهجوم أو الإدانة، وهي دعوة لجميع الشرفاء، ونخص اليسار هنا؛ لأن الحجة مقامة عليه بسبب وعيه وثقافته وتراثه ونفوسه السوية المنحازة للحقوق والثائرة على الظلم والاستعمار والاستعباد.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد