اوراق خاصة

أسلحة الإسرائيلي النفسية ضد لبنان..أدواتها وكيفية مواجهتها

post-img

فادي الحاج حسن/ كاتب لبناني

في ساحات النزاعات غير المتماثلة، حيث يتلاشى الخط الفاصل بين الجبهة والدار، بين المقاتل والمدني وبين الرصاصة والكلمة، يبرز سلاح جديد لا يقل فتكًا عن الدبابات والطائرات المسيرة؛ إنه سلاح التهويل. 

هذا السلاح، والذي تحوّل إلى فنّ متطور في يد الآلة العسكرية الصهيونية، لا يستهدف الجسد بقدر ما يستهدف العقل، ولا يدمر المباني بقدر ما يهدم الإرادات. هو، في جوهره، محاولة يائسة لكسر ما تعجز عنه القنابل؛ كسر إرادة شعب قرر أن يبقى.

بالاستعانة بعدسة العلوم الاجتماعية والنفسية، يمكننا تفكيك هذه الظاهرة. في علم النفس الاجتماعي؛ تُعرِّف نظرية "إدارة الرعب" بأن التهديدات الوجودية تدفع المجتمعات إما إلى التماسك أو التفكك. يدرك العدو الصهيوني، بعمق، أهمية هذه الآلية، فيصمم هجماته التهويلية لإبادة الشعور بالأمان والانتماء قبل إبادة الأجساد والأرواح، محوّلًا المنزل من ملاذ إلى هدف، والطفل من براءة إلى رهان، والمستقبل من أمل إلى تهديد.

"خرائط الرعب" في الهندسة النفسية للتفكيك المجتمعي

في التصعيدات المتتالية، طوّر العدو ما يشبه "خرائط نفسية" للمجتمع اللبناني، يقسم فيها الناس بحسب نقاط ضعفهم العاطفية والاقتصادية والوجودية؛ إضافة إلى انتماءاتهم السياسية. هذه الخرائط ترسم برسائل الإخلاء العشوائية وبخرق جدار الصوت فوق العاصمة، وبالتهديد المتعمد بضرب مطار بيروت الدولي والمرفأ.

في هذا السياق؛ تتدخّل "نظرية "التكييف الشرطي"، في علم النفس السلوكي. إذ من خلال ربط أي دعم للمقاومة بعقاب جماعي (تدمير بناية سكنية، قصف شارع تجاري)، يحاول المحتل خلق رد فعل خوف تلقائي عند المواطن اللبناني، عند مجرد التفكير في المقاومة يصبح مرادفًا للدمار الشخصي. لكنّ هذا السلاح ذو حدين، فكما توضح نظرية "الصمود المجتمعي"، يمكن أن تتحول الصدمة الجماعية إلى مناعة جمعية، فيتحول الخوف إلى غضب، والغضب إلى تمسك أشد بالهوية والمقاومة.

أسلحة التهويل من الطائرات الوهمية إلى الحرب الاقتصادية النفسية

لنأخذ مثالًا عمليًا حيًا؛ وهو خرق جدار الصوت؛ حيث طائرات العدو تحلق على علو منخفض فوق مناطق بعيدة عن الجبهة، محدثة دويًا يشبه الانفجار من دون أن تلقى قنبلة واحدة. هذا ليس عرضًا تقنيًا، هو هجوم نفسي مصمم بدقة. من منظور "علم النفس العصبي"؛ الصوت المرتفع المفاجئ يثير اللوزة الدماغية، وهي مركز الخوف في الدماغ، فيسبب ردود فعل فسيولوجية فورية تلقائية: تسارع ضربات القلب، التعرق، الذعر. عندما يتكرر هذا المشهد، يوميًا، يصاب افراد المجتمع المستهدف بحالٍ من التوتر المزمن الذي ينهك الجسد والروح معًا.

لكن الأكثر خطورة هو تحويل هذا الهجوم النفسي إلى حرب اقتصادية. عندما يهدد العدو بقصف مطار بيروت الدولي أو المرفأ، فهو لا يستهدف حجمًا إسمنتيًا بقدر ما يستهدف رمز التواصل مع العالم. هي رسالة واضحة موجهة للمغتربين والتجار والطبقة الوسطى: "أنتم في سجن كبير، واستثماركم غير آمن". الهدف، هنا، كما يشرح "علم الاجتماع الاقتصادي"، هو تحويل منطق الربح والخسارة إلى سلاح ضد المنطق الوطني، ودفع النخب الاقتصادية إلى الضغط سياسيًا لوقف الحرب بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو التنازل عن السيادة.
استهداف الذاكرة عندما يصبح المنزل ساحة معركة وجودية.

إحدى أخطر أدوات التهويل هي استهداف الذاكرة الجمعية؛ في قصف المساجد القديمة والجامعات والأبراج السكنية الشاهقة، كونها رموزًا حسية تعبر عن الهوية والاستمرارية. كما تقول نظرية "علم نفس المكان" بأن الأماكن تحمل ذكريات الإنسان، وتشكل جزءًا من الهوية الفردية والجماعية. ما يعني أن تدميرها هو محو للتاريخ وشطب للذاكرة، ورسالة مفادها: "حياتكم السابقة انتهت، ومستقبلكم مرهون بقرارنا".

هذا الهجوم الوجودي يتجلى بوضوح في التهديد المتكرر بتحويل لبنان إلى "غزة أخرى". هنا، يستخدم العدو "الصدمة البصرية" وسيلة لنقل الرعب. إذ إن صور الدمار في غزة تنشر للتأثير على الرأي العام العالمي، من جهة، ولكنّها من جهة أخرى  هي رسالة تهديد مباشر للبنانيين؛ تقول: "هذا ما سنفعله بكم". هذه الآلية تعتمد على ما يُعرف، في علم النفس بـــ"العدوى العاطفية"، حين تنتقل مشاعر الخوف والرعب إثرالمشاهد المصورة، مخلقة حالًا من القلق المسبق حتى قبل أن تبدأ المعركة.

الفئات المستهدفة والتشريح النفسي للمجتمع

يقوم العدو بتقسيم المجتمع اللبناني إلى شرائح نفسية، لكل منها "رسالة رعب" مخصصة:

1.    الأمهات والآباء: تُستهدف غريزة الحماية بتهديد حياة الأطفال بشكل مباشر. اتصالات هاتفية شخصية، رسائل واتساب، منشورات موجهة، كلها تحمل الرسالة: "المقاومة تضع أطفالكم في خط النار". الهدف، بحسب "نظرية التعلق" في علم النفس، هو إثارة الخوف الوجودي عند الأهل ودفعهم إلى الهروب أو المطالبة بوقف الحرب "من أجل الأولاد"، وبذلك يُحوّلون من حاضنة للمقاومة إلى ضغط ضدها.

2.    النازحون: هم يعيشون "صدمة الانتقال"؛ حيث فقدوا منازلهم وأمانهم المادي، وأي تهديد جديد أو إشاعة عن قصف مراكز الإيواء، يجعلهم يعيشون في هلع مستمر. العدو يستغل هذه الهشاشة النفسية لدفع هؤلاء إلى اليأس، وجعلهم أداة غير مباشرة للضغط الداخلي عبر زيادة أعباء النزوح على المجتمع المضيف.

3.    الجيل الشاب غير المقاتل: هو جيل الإنترنت والفرص والطموحات الشخصية. إذ إن التهديد بقطع الاتصالات وعزل لبنان وتدمير الفرص الاقتصادية، كلها أسلحة مصممة لإصابة هذا الجيل بـ "الإحباط الوجودي ودفع عدد منه إلى الهجرة، فيحرم المجتمع المقاوم من طاقاته الحيوية، ويحقق للعدو هدفًا استراتيجيًا هو تفريغ البلد من شبابه.

نظرية المصير المشترك تحت النار.. هل ينكسر التماسك؟

يحاول سلاح التهويل تحطيم "نظرية المصير المشترك"، والتي تجمع بين المقاومة والشعب والدولة. الفكرة هي إقناع كل طرف أن الآخر هو سبب شقائه: إقناع الشعب أن المقاومة تجلب الدمار، وإقناع الدولة أن الشعب يدعم "مغامرة" تهدد استقراره، وإقناع المقاومة أن الشعب قد يتخلى عنها تحت وطأة الألم.

لكن الملاحظ، بعد تحليل سوسيولوجي لردود الأفعال في الحروب السابقة، أن هذه المعادلة غالبًا ما تنقلب ضد المهاجم، في بيئة المقاومة. كما توضح "نظرية العدالة الاجتماعية"، عندما يدرك الناس أن العقاب جماعي وظالم، والعدو لا يميز بين مقاتل ومدني، يتعزز شعور المظلومية الجماعي والتماسك الداخلي ولا يضعفه. الصدمة تتحول إلى غضب، والغضب إلى إصرار على المقاومة. لم نرَ في لبنان أو غزة شعبًا رفع الراية البيضاء تحت وطأة القصف، لقد رأينا التصاقًا أكبر بخيار الصمود؛ لأنّ الناس أدركوا أن وجودهم هو المستهدف بالأصل، وليس انتمائهم أو انتسابهم إلى فصيل مقاوم محدد.

سبل المواجهة.. من علم النفس المضاد إلى استراتيجيات الصمود

المواجهة الفعالة لسلاح التهويل تتطلب أكثر من شجاعة، في مقدمتها ذكاء جمعي واستراتيجيات نفسية مضادة:

1.    السخرية سلاح نفسي: تحويل أدوات التهويل إلى مادة للسخرية والتقليل من شأنها. تسمية خرق جدار الصوت بـ "صراخ العاجز" بدلًا من "الغارة المرعبة". هذا يكسر هالة الرعب، ويسلب الفعل فاعليته النفسية. هذا يتوافق ومبدأ  "العلاج النفسي السلوكي"، ويعرف بـــ"إزالة التحسس"، حين يقلّل من الاستجابة لمصادر الخوف خلال الاعتداءات المتكررة مع إطار تفسيري جديد.

2.    استمرارية الحياة في تحدٍ مستمر: الإصرار على فتح المحال التجارية والذهاب إلى المدارس وإزالة الركام فورًا، هو رسالة نفسية قوية: "أدواتك لا تشلّنا". هذا يعيد للمجتمع شعورًا بالسيطرة والوكالة، وهو نقيض الشعور بالعجز الذي يريد العدو زرعه في المجتمع المقاوم.

3.    الشفافية المضادة: تعني فضح أكاذيب التهويل، بشكل سريع وموثق. كما حدث عندما فتح مستشفى الساحل أبوابه للصحافة العالمية ليكشف زيف الادعاءات عن وجود أنفاق تحته. هذا يحوّل سلاح التكهن إلى دليل على ضعف الاستخبارات المعادية وسوء تقديرها وليس قوتها ونجاحها.

4.    الرد المتبادل وتوازن الرعب النفسي: عندما ترد المقاومة بقصف عمق العدو ردًا على استهداف المدنيين، تنقلب المعادلة. المستوطن الصهيوني، والذي كان يشاهد قصف غزة من شرفة منزله الآمن، يصبح فجأة هو الخائف على حياته. هذا يكسر الانفصال النفسي الذي يسمح للمجتمع الإسرائيلي بتأييد الحرب من بُعد، ويدفعه إلى تحميل حكومته ثمن المغامرة.

5.    تعزيز التماسك الداخلي: تنظيم حملات دعم للنازحين وإطلاق مبادرات تضامن بين المناطق، هي أفعال تُترجم نظرية "المصير المشترك" إلى واقع ملموس. كلما شعر الفرد بأنه جزء من نسيج متين قلت تأثيرات التهويل الفردية عليه.

في الختام ..صرخة العاجز

في التحليل النهائي، سلاح التهويل هو صرخة عجز.. هو اعتراف ضمني بأن العدو عاجز عن تحقيق نصر عسكري حاسم على المقاتل في الميدان، فيحوّل ساحة المعركة إلى قلوب المدنيين. لكن تاريخ المقاومة في المنطقة يثبت أن الإرادة الجماعية أقوى من أحدث أسلحة الترهيب. السر ليس في عدم الشعور بالخوف، بل في القدرة على تحويل هذا الخوف إلى وقود للمواجهة، وإدراك أن الهزيمة الحقيقية تبدأ باستسلام النفس قبل استسلام الجسد.

المواجهة الحقيقية تكمن في الوعي بآليات اللعبة النفسية التي يمارسها العدو، عندما يفهم الشعب أن التهويل هو سلاح الضعيف، واستمرار الحياة هو أقوى رد، والسخرية من التهديد تجرد الطغاة من هيبتهم الوهمية، حينها لا يعود للتهويل أي مفعول. 

يبقى الدرس الأهم: الشعوب التي تحمي ذاكرتها، وتتمسك بأرضها، وتؤمن بمصيرها المشترك، هي شعوب لا تقهر.
 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد