أوراق ثقافية

اللوبي الصهيوني يفرض الرقابة الأكاديمية في حرم الجامعات الفرنسية

post-img

عائشة بلحاج/ العربي الجديد

لم تمض سوى ساعات على إلغاء "مؤتمر فلسطين وأوروبا"، حتى توالت ردود الفعل المستنكرة، التي أدانت القرار الذي اتخذته إدارة كوليج دو فرانس. ويتوقع أن تعرف الساعات المقبلة تفاعلات أخرى حول خطوة تمثل ضرباً لكل ما تقوم عليه فرنسا الحديثة؛ من حريات عامة، وتقاليد ديمقراطية واستقلالية تامة للمؤسسات، ورفض كلي لفكرة الرقابة. وسعياً منها إلى مقاربة القرار واستقراء آراء المعنيين، حاورت "العربي الجديد" عدداً من الباحثين والكتاب المهتمين حول قرار المنع.

الكاتب والصحافي الفرنسي آلان غريش أشار إلى أن إلغاء المؤتمر "فضيحة حقيقية". و"لإدراك ذلك، يجب أن نقرأ القرار في سياق سياسة حكومية تستهدف كل تعبير يتعلق بالقضية الفلسطينية ويختلف عن الخطاب الرسمي والإعلامي"، مضيفاً أن للقرار "جانباً خطيراً جداً يتمثل في أنه يمس بالحريات الأكاديمية لإحدى أرقى المؤسسات البحثية، كوليج دو فرانس، التي لها الحق في تنظيم مؤتمرات علمية من دون تدخل من الدولة. نحن هنا أمام ممارسة كانت معروفة أكثر في الدول الشمولية، وهو أمر لا يمكن فصله عما يحدث على الساحة الفرنسية في الوقت الراهن. ففرنسا هي البلد الأوروبي الذي قُمعت فيه الحركات التضامنية مع الفلسطينيين بشكل أشد من غيره في أوروبا، وحيث يُتهم هذا الحراك بتأييد الإرهاب. وهي ظاهرة مقلقة جداً يجب إدانتها". ويختم بأنه يأمل "أن ينهض الأكاديميون والمثقفون الفرنسيون ضد كل هجوم على حرية التعبير وحرية البحث".

فلسطين غير مسموح لها أن تكون موضوع نقاش علمي

بدوره، عبر الباحث والأكاديمي الفرنسي فرانسوا بورغا عن استنكاره للقرار، مشيراً إلى أننا "أمام مأزق فكري وحضاري عميق، ومن المهم أن يدين الجميع حول العالم هذه الأساليب التي تنتهجها الحكومة الفرنسية. فالمشكلة ليست في شيطنة الرأي الفلسطيني فقط، بل تتجاوز ذلك إلى شيطنة الدفاع عن القانون الدولي والمبادئ الإنسانية الأساسية"، واصفاً القرار بأنه "يعكس استسلام النخبة الحاكمة لضغوط اللوبي الصهيوني، حيث تشبه أساليب القوة الحاكمة حالياً في فرنسا في ما يخص الاحتلال في فلسطين أساليب الإدارة الأميركية، أو بالأحرى أساليب ترامب".

من جانبه، اعتبر مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس، سلام الكواكبي، خطوة وزير التعليم العالي والبحث الفرنسي، الذي لا باع له في العلوم الاجتماعية، بالتدخل في عمل أعرق مؤسسات الأكاديمية الفرنسية، بأنها غير مسبوقة. وبيّن الباحث والكاتب السوري أن المؤتمر الذي كان سينعقد "بتعاون وشراكة، حتى في تركيبة الطاولات المستديرة مع كوليج دو فرنس، وكرسي تاريخ العالم العربي المعاصر، سيُنظّم في مكان آخر حتماً"، مضيفاً "هذه وصمة عار للحرية الأكاديمية الفرنسية، سبّبها قرار وزير التعليم العالي، وسببها كذلك خضوع عميد كوليج دو فرانس لقراره، قبل أيام معدودات من عقد المؤتمر، رغم اطلاعه على البرنامج منذ أكثر من سنة، وموافقته عليه، واقترح أن يعقد المؤتمر مغلقاً من دون جمهور يتابع لقاءات علمية جادة تتحدث عن القضية الفلسطينية والعلاقة مع أوروبا، خشية من الرأي العام". أشار الكواكبي إلى أن التضامن مع المركز الذي عبّر عنه عشرات من الأكاديميين الفرنسيين أثار غبطة المركز، وغبطة القائمين على هذا المؤتمر، موضحاً أنه خلال اليومين المقبلين ستصدر بيانات متضامنة في الصحف الفرنسية، توقع عليها أهم الأسماء العلمية".

كما لفت أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في باريس زياد ماجد، إلى أن المنع سيُثير المزيد من الاستنكار في الأوساط العلمية والجامعية، وسيترجم الأمر قريباً إلى بيانات وقرارات تندد بالقرار، إضافة إلى أنه "يثير مخاوف من أن يكون مقدمة للمزيد من المنع والرقابة والضغوط على الأصوات العلمية وعلى المؤتمرات العلمية التي تنعقد للبحث في المسألة الفلسطينية". ولأن المؤتمر "يرتبط بحرب الإبادة في غزة، ويرتبط باللوبيات الموالية لإسرائيل التي تريد، خاصة بعد وقف إطلاق النار، ألا يتم التطرق إلى ما جرى، وألا يتطرق البحث العلمي إلى الإبادة". المشكلة الأساسية برأيه هي "أن غزة وفلسطين تُظهران حدود الديمقراطية في عدد من الدول الغربية، وإسرائيل استثناء في ما يخص الديمقراطية الغربية، كما هي استثناء لحصانتها اتجاه القانون الدولي، الذي لا يقيم له من بنوه أي احترام، إذا كان الأمر يتعلق بالانتهاكات وجرائم إسرائيل".

ذهبت ليلى سورا الباحثة في المركز العربي في باريس إلى اعتبار هذا المنع أنه يعكس تواطؤاً واضحاً بين جزء من الصحافة الفرنسية، وخصوصاً صحيفة لو بوان، وبين وزير التعليم العالي وجمعية ليكرا. ويتم التعامل من خلاله مع البروفيسور هنري لورانس، الشريك في تنظيم المؤتمر، كما لو كان خارجاً عن المؤسسة التي يعمل ضمنها، في حين أنه لا يعبّر إلا عن عمله الأكاديمي وليس بصفته ممثلاً رسمياً للمؤسسة. هناك حظرٌ غير معلن في فرنسا على كلّ نقاش أكاديمي يتناول فلسطين. هذا التضييق تعاظم بعد السابع من أكتوبر، حتى بات الموضوع يُعامل 'خطاً أحمر'، في وقت يُفترض فيه أن يكون كوليج دو فرانس رمزاً للبحث الحر والنقاش العلمي المفتوح".

تساءلت سورا "كيف يسمح وزير للتعليم العالي لنفسه باتخاذ قرار بناءً على حملات صحافية ذات توجهات يمينية متطرفة، بدل الاستناد إلى الإطار القانوني الذي يحمي الباحثين؟"

ردود الفعل هذه لن تتوقّف عند حدّ، في بلد كان في فترة ما واحةَ حرية وملجأً للهاربين من القمع، بلد فولتير الذي أطلقَ منذ القرن الثامن عشر، عصر الأنوار، مقولته التي شكّلت العمود الفقري لمفهوم الديمقراطية: حرية التعبير واحترام الاختلاف: "قد أختلف معك في الرأي، ولكني مستعدّ أن أدفع حياتي ثمناً لحقّك في التعبير عن رأيك".

غزّة هي المعيار الأساسي اليوم، وهي البوصلة. فما شهدته من أهوال قلّما شهدها التاريخ، لا يعني الفلسطينيين وحدهم فحسب، بل العالم أجمع وما يتهدّده من انحراف قد يأخذه نحو فاشيّات جديدة.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد