اوراق مختارة

رحيل الروائي والقاص المصري مصطفى نصر… حارس ذاكرة الإسكندرية

post-img

محمد عبد الرحيم/ القدس العربي

برحيل الأديب والحكاء مصطفى نصر (1947 ـ 2025) يخفت صوت مهم من أصوات السرد المصري، فالرجل يُعد بحق ممن وثّق لمحافظة الإسكندرية في ماضيها وحاضرها، وبينهما تحولاتها التي شهدتها هذه المدينة التي كانت تعبّر بحق عن الروح المصري في المقدرة على التعايش واحتواء الآخر، وصولاً بها إلى مدينة تغرقها الأمطار وتصبح مرتعاً للتيار السلفي. معظم أعمال نصر ــ إلا القليل ــ سواء روايات، أو قصصا، أو نصوصا، أو حتى حكايات عن شخوص تعوّد مؤخراً سردها على صفحته على فيسبوك، لا تخرج عن مدينته التي عشقها وعرف خباياها، وصاغها في تجربة أدبية طويلة لا تخص إلاه. وبمناسبة رحيله نورد بعض الآراء ووجهات النظر للأديب الراحل.. عن الكتابة والمدينة، وكذا الموقف من النقد والجوائز، وكل آفات الثقافة المصرية، التي عانى منها، لسبب وحيد لم يكن له يد فيه، وهو أنه بعيد عن العاصمة/القاهرة التي تلقي الضوء على أدب عديمي المواهب، أو أنصافها بالكاد..

«يهود الإسكندرية»

تعد رواية «يهود الإسكندرية» من أشهر ما كتب مصطفى نصر، ربما لطبيعة موضوعها، أو لنجاح توزيعها والاحتفاء النقدي بها، مقارنة برواياته الأخرى. فالرواية تنقسم إلى ثلاثة أجزاء تحكي قصة أجيال مختلفة، هناك جزء يحكي عن اليهود في الإسكندرية، خلال حكم الوالي سعيد، أما الجزء الثاني، فيحكي عن اليهود في مصر خلال الحرب العالمية الثانية وخوفهم من وصول الألمان إلى مصر، ثم يرتبط الجزء الثالث بالفترة التي قضاها اليهود في مصر، بعد اتفاقية كامب ديفيد. هذا التوثيق الدقيق يبدأ منذ عام 1862، وحتى نهاية عصر السادات وبداية عصر مبارك. يقول نصر.. «في هذه الرواية، التزمت بثوابت تاريخية، وتصرفت في التفاصيل، فحادث الانفجار الذي أدى إلى موت الكثير من اليهود، لم يحدث في الحقيقة ليهود الإسكندرية، بل حدث في حارة اليهود في القاهرة، حيث كان هناك يهود يعملون في صناعة البمب والصواريخ. انفجرت ورشتهم، فكان ذلك سبباً في موت الكثير منهم، وحرق بيوتهم. كما أنه ليس هناك ما يؤكد وصول السادات إلى هذه المنطقة أيام هروبه من الشرطة بعد قضية أمين عثمان، ثم بعدما أصبح رئيساً لمصر. تلك حكايات تتردد في المنطقة، استغللتها وكتبتها».

آفة النقد

رغم الاحتفاء النقدي بأعمال مصطفى نصر، إلا أن هذا الاحتفاء يبدو أنه جاء متأخراً، ومتأخرا جداً من وجهة نظره، فقد عاني مع الكثير من أدباء الإسكندرية من آفة النقد والنقاد، ويذكر في حوارته ومقالاته العديد من الأمثلة، منها.. «حكى لي أحد الشعراء الأصدقاء، أن ناقداً دأب على مهاجمة شعره، والنيل منه في كل قصيدة يقرأها له، ثم جاء شاعر آخر، وقدم لهذا الناقد قصيدة، أعجبته، فقام واحتضنه وقبله، وأخذ يتحدث عنها طويلا، وهو ينظر لصاحبنا ـ الذي يراه شاعرا قليل القيمة ـ ويقول له: «تعلم من هذه القصيدة، ففيها الذي ينقصك في الشعر». وبعد لحظات، قال ـ الذي قدم القصيدة ـ للناقد: إنها من تأليف زميلنا فلان، واضطر الناقد أن يقول في قلة حماس: «حقيقة قصيدتك؟! لقد تطورت كثيراً».

في موضع آخر يذكر.. «قال لي الأستاذ إبراهيم عبد المجيد بأنه حقق شهرة تمكِّنه من مباشرة أعماله من الإسكندرية. وعندما قابلته في معرض الكتاب في القاهرة؛ سألته لماذا لم تباشر أعمالك من الإسكندرية كما قلت؟ أجاب: (لقيت نفسي حاضيّع كل إللي عملته)… هذا ما يحدث في أيامنا هذه، التهليل والتصفيق لكاتب لأنه من شلتهم، أو صديقهم، والتعتيم على كاتب مجيد، لمصلحة كاتب آخر يهمهم».

مرايا مصطفى نصر

يبدو أن مسألة زيف النقاد شغلت مصطفى نصر كثيراً، حتى إنها كانت المُحرّض على كتابة روايته «دفء المرايا» 2019، يقول.. «أتحدث عن أحداث حقيقية حدثت في المجتمع الثقافي في الإسكندرية، يعني قريبة من مرايا نجيب محفوظ… والشرارة الأولى التي دفعتني للبدء في كتابتها، أنني كنت أقف على باب قاعة سيناقشون فيها مجموعة قصصية لكاتب سكندري يعمل في القاهرة، ويحيطونه بهالة من الاهتمام، فسأل أحدهم أستاذاً جامعياً سيشترك في المناقشة: إيه رأيك في المجموعة؟ فكان رده: كلام فارغ! لكن عندما جلس إلى المنصة أخذ يمتدح هذه المجموعة القصصية ويثني عليها!

مأساة الشخصيات الحقيقية

كان نصر مشغولا دائماً باستحضار شخصيات حقيقية في أعماله، حتى إنه كان دائم البحث عنها في الروايات العربية والعالمية من «فرتر» غوته إلى «مرايا» محفوظ، يقول.. تناولي لبعض الأحداث الحقيقية في قصصي ورواياتي سبّب لي القلق، فقد زارت أختي قريبة لنا، وتحدثا عني ككاتب، فقالت قريبتي: لكنه «بيمسخ» بمعنى يذكر الناس بالسوء، وبلغني ما يتردد في المقاهي عني، بأن ما أكتبه يصوّر الحي في صورة ليست فيه. وبلغني عن امرأة أخرى لا أعرفها ولم أرها عمري، وأعتقد أنها كذلك، أنها قالت: نعلم إنه مؤلف، وقد كتب عن امرأة في الحي، فاشترى ابناؤها كل نسخ الرواية، لكي يمنعوا الناس من قراءتها ـ وهذا لم يحدث ـ ولكنه الخيال الشعبي». ويضيف أن (كمال عبد الجواد) هو نجيب محفوظ في شبابه، وأن البطل الحقيقي لرواية «السراب» غضب عندما قرأ ما كتبه محفوظ عنه وطارده بمسدسة لفترة من الزمن. وعندما قدّم محفوظ شخصية (بسيمة عمران) في رواية «الطريق» قصد بها زينب عصفور قوادة الإسكندرية المشهورة، وصاحبة أكثر من عمارة كبيرة وشاهقة في محطة الرمل، ما زالت تسمى باسمها. بخلاف شخصيات «المرايا» التي تشير كلها إلى شخصيات حقيقية… وقد شغلت لفترة من الزمن بالبحث عن الشخصيات الحقيقية للروايات العالمية، وحلمت بأن أحولها لأعمال درامية تذاع في إذاعة الإسكندرية، لكن اللجنة التي تقبل وترفض الأعمال المقدمة جعلتني أبتعد عن الكتابة للإذاعة نهائياً.

آفة الجوائز

يقول نصر.. «الجوائز الأدبية في مصر تثير الأسى والحزن، وربما السخرية. حقيقي كل الجوائز فيها شك، فجائزة نوبل مثلا يدخل فيها نوع المتقدم للجائزة وبلده وموقفه السياسي والديني أحيانا. أما عن جوائزنا ففيها ألف شك، تتدخل فيها أشياء كثيرة، لكن كل الجوائز تحرص على أن يمنحوها، بين فترة وأخرى، لمن يستحقها حتى لا تفقد الجائزة قيمتها ومكانتها. بعض الكتاب أجادوا التعامل مع الجوائز، خططوا ونجحوا في التأثير على مَن يصوتون لنيل الجائزة، وهناك حكايات كثيرة تحكى عن هذا، مثل زميلنا الكاتب الذي أدرك حقيقة ما يحدث، فاتصل بكل مَن له صوت في التحكيم للجائزة تليفونيا وقال: أعلم أني لن أفوز بالجائزة، لكن أريد أن أخسر خسارة لا تحرجني. كل ما أريده أن أخسر بشرف. أدى هذا إلى أن تعاطف معه كل مَن له صوت في الجائزة، وفوجئ الأدباء بأنه حصل على الجائزة بهذه الخدعة… معظم أعضاء اللجنة التي تمنح الجوائز، ليست لهم صلة بالأدب، فرؤساء المصالح الحكومية الثقافية لهم أصوات في منح الجائزة، ورئيس نقابة الممثلين له صوت أيضاً، ومندوب وزارة المالية له صوت. يعني يمكن لشخص أن يحصل على أكبر جائزة أدبية في مصر وهو أبعد ما يكون عن الأدب… كان صديقي الكاتب يقول إننا غلابة، لسنا منتمين إلى ناد كبير نلعب باسمه، وليس لدينا مصالح نقدمها للآخرين مقابل ما يقدمونه لنا. المشكلة الأكبر أن بعدنا عن القاهرة مركز الضوء، أبعدنا عن النقاد الكبار.. إن التجاهل مدرسة نقدية كاملة، تخفي سوء نية وتآمراً لا حدود لهما. إننا محاصرون بالتجاهل من كل جهة. من بعض النقاد ـ خاصة الكبار ـ ومن تجاهل زملائنا الكتاب الأكثر منا شهرة، وأفضل طريقة للتعامل مع هذه المشكلة أن تنساها، وإلا عطلت مسيرتك».

نختتم بهذه العبارات للكاتب الراحل.. «عندما أكتب عن نفسي، لا أعرف كيف أخفي حقيقة الشخصيات التي أتحدث عنها. كنا نسكن حجرتين من الشقة والحجرات الثلاث الأخرى تشغل كل منها أسرة. عالم صعب للغاية، صبي بلا أم تحميه، ووالد انشغل بالزوجة الجديدة وأبنائه منها، ففي كل مساء يغلق حجرته عليه وعليها، ولا يشغله هل عدت إلى البيت أم لا. كنت أقضي الليلة مع صديق أو قريب. اعتدت على كتابة اليوميات، وعندما أعود إليها ـ الآن ـ أبكي من شدة الشجن والأسى والحزن والألم».

بيبلوغرافيا

مصطفى نصر قاص وروائي مصري من مواليد عام 1947 ترجع أصوله إلى محافظة سوهاج في صعيد مصر، مركز (المراغة)، ولكنه ولد وعاش في مدينة الإسكندرية حتى وفاته في 9 نوفمير/تشرين الثاني 2025. نال عدة جوائز محلية، نذكر منها.. الجائزة الأولى في الرواية عن رواية «الجهيني»، وجائزة نادي القصة في القاهرة عن مجموعة «وجوه».

المؤلفات:

الروايات ..

الصعود فوق جدار أملس1977، الشركاء 1982، جبل ناعسة 1983، الجهيني 1984، الهماميل1988 ، شارع ألبير 1995، النجعاوية 1996، إسكندرية 67، سوق عقداية، 1999، ليالى الإسكندرية 2000، ظمأ الليالي 2000، ليالي غربال، المساليب 2002، سينما الدرادو 2006. يهود الإسكندرية 2016، دفء المرايا 2019، غواني الإسكندرية 2024.

القصص..

الاختيار 1982، حفل زفاف في وهج الشمس 1999، وجوه 2003، الطيور 2004، حجرة صغيرة 2008.

قصص أطفال..

أبو قير وأبو صير 2005، شدو البلابل، الشجرة الصغيرة 2007، وصية الملكة 2013، قسط الشقة الجديدة 2015.

وكذا العديد من النصوص والمقالات في الصحف والدوريات الأدبية والإلكترونية داخل وخارج مصر.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد