اوراق مختارة

مودعو الليرة… الضحية المنسية!

post-img

منجد شريف (صحيفة البناء) 

لم تعد أزمة الودائع في لبنان مسألة أرقام وفجوات مالية فحسب، بل تحوّلت إلى واحدة من أخطر أزمات الثقة بين المواطن والدولة. وفي خضمّ النقاشات السياسية والمالية الدائرة، برز تجاهل فاضح لفئة واسعة من اللبنانيين: مودعو الليرة اللبنانية، الذين باتوا الضحية الأكثر تهميشاً في سردية الانهيار.

هؤلاء لم يغامروا، ولم يهرّبوا أموالهم، ولم يضاربوا على العملة. على العكس، أودعوا مدّخراتهم بالليرة في فترات كان فيها سعر الصرف ثابتاً، استناداً إلى سياسات رسمية وضمانات مصرفية، وفي ظلّ إشادة داخلية وخارجية بالقطاع المصرفي اللبناني وبإدارته النقدية. الإيداع بالعملة الوطنية لم يكن خياراً عاطفياً، بل فعل ثقة بدولة ومؤسسات.

لكن هذه الثقة انقلبت إلى عقوبة جماعية. فالليرة فقدت أكثر من 98% من قيمتها، فيما تُناقَش اليوم خطط تعافٍ تتعامل مع ودائعها وكأنها هامشية أو قابلة للشطب الضمني، عبر احتسابها على أسعار صرف منهارة لم تكن قائمة عند الإيداع. وكأنّ المطلوب من مودعي الليرة أن يدفعوا وحدهم ثمن انهيار لم يشاركوا في صناعته.

الأخطر من الخسارة المالية هو التمييز الصارخ بين المودعين. فالمودع بالعملة الأجنبية يُدرَج في صلب النقاشات، بينما يُترَك مودع الليرة خارج الحسابات، رغم أنّ كليهما سلّم أمواله للنظام المصرفي ذاته، وتحت الرقابة نفسها، وبناءً على القوانين نفسها. هذا التمييز لا يستند إلى منطق اقتصادي أو قانوني، بل يُشكّل مساساً بمبدأ المساواة والعدالة.

وتتضاعف المأساة حين نعلم أنّ غالبية مودعي الليرة هم من المتقاعدين وموظفي القطاع العام وذوي الدخل المحدود، الذين جرى استدراجهم عبر فوائد مرتفعة وتشجيع رسمي على الإيداع بالعملة الوطنية. هذه الأموال لم تُهدر، بل استُخدمت في قروض سكنية واجتماعية واستثمارات، استفاد منها آخرون. ومع الانهيار، سُمح لعدد كبير من المدينين بسداد قروضهم بقيَم شبه معدومة، فانهار الدائن وبقيَ المدين رابحاً. فأيّ عدالة هذه؟

المسألة لم تعد تقنية، بل حقوقية بامتياز. فالحرمان الفعلي من الودائع، عبر التضخم القسري وأسعار الصرف المجحفة، يُعدّ مصادرة غير مباشرة للملكية الخاصة، ويتناقض مع أبسط المبادئ الدستورية ومع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يكفل حق الملكية وعدم التمييز.

إنّ إنصاف مودعي الليرة لا يعني إنكار حقوق سائر المودعين، بل تصحيح خلل فادح في مقاربة الأزمة. فالودائع يجب أن تُحتسب على أساس قيمتها الحقيقية عند الإيداع، لا على أساس نتائج انهيار ناجم عن سوء إدارة وسياسات خاطئة لم يكن المودع طرفاً فيها.

من دون هذا التصحيح، لن تكون هناك ثقة بنظام مصرفي جديد، ولا بإصلاح مالي، ولا بدولة تطلب من مواطنيها الإيمان بها، فيما تعاقب من فعل ذلك. فالدول لا تُبنى على محو الذاكرة المالية للناس، بل على حماية حقوقهم، خصوصاً حين يكون الخطأ خطأ الدولة لا خطأ المواطن.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد