معتز منصور/ باحث سياسي
شهدت دولة الإمارات العربية، منذ منتصف العقد الماضي، انتقالاً لافتًا من دور اقتصادي محافظ إلى فاعل جيوسياسي نشيط ومتشعب، يتداخل حضوره في مناطق تمتد من الخليج إلى القرن الإفريقي والبحر الأحمر وشرق المتوسط.
هذا التحول لم يعد محلّ ملاحظة إقليمية فقط، لقد أصبح موضوعًا مركزيًا في الأدبيات الغربية التي تدرس ديناميات التحالفات الجديدة في منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط). وداخل هذا الحقل البحثي، برزت ثلاث مقاربات تضيء، من زوايا مختلفة، طبيعة الصعود الإماراتي وحدوده وعلاقته بالبنية الإقليمية لما بعد العام 2017: مقاربة ديفيد ميلر وأندرياس كريغ وكريستوفر ديفيدسون.
يرى ديفيد ميلر أن سلوك الإمارات الجيوسياسي لا يمكن فهمه بمعزل عن ارتباط بنيوي عميق بالمشروع الإسرائيلي في المنطقة. إذ منذ اتفاقيات التطبيع، تعززت، وفقًا لــ"ميلر"، منظومة مصالح تجعل من أبو ظبي نقطة ارتكاز لعمليات إعادة ترتيب البيئة العربية من الداخل، ما يسهّل اختراقها وتقويض مراكز القوى التقليدية فيها.
يستشهد ميلر بسلسلة تحركات إماراتية باتت تشكّل صورة واضحة:
- السيطرة أو الاستثمار في مرافئ وممرات بحرية حساسة في القرن الإفريقي وجيبوتي وإريتريا.
- إدارة مسارات نقل المرتزقة الكولومبيين عبر الصومال.
- محاولة فرض حصار خانق على قطر انتهى بالتخطيط لغزو مباشر.
- التدخل في البنية الاجتماعية والدينية داخل السعودية، إضافة إلى سلسلة من حروب الوكالة في ليبيا والسودان.
- دعم انقلابات سياسية أو شبكات نفوذ في مصر وتونس.
هذا؛ ويرى ميلر أن هذه الحلقات ليست مبادرات إماراتية خالصة بقدر ما تمثل مكونات لوظيفة أمنية وسياسية أوسع؛ تخدم هندسة القوة الإسرائيلية في الإقليم.
أما أندرياس كريغ، وهو الباحث في كلية كينغز كوليدج، يقدم قراءة أكثر اهتمامًا بالآليات التشغيلية التي تعتمدها أبو ظبي. هو يرى أن الإمارات تبني تأثيرها عبر ثلاث أدوات:
- الخصخصة الأمنية والعسكرية: عبر شبكة شركات أمنية خاصة مرتبطة بالنخبة الحاكمة، تُستخدم لتوفير خدمات قتالية أو استخباراتية خارج القيود التقليدية للدولة.
- الحلفاء من وكلاء محليين: من الميليشيات في اليمن إلى قوات حفتر في ليبيا، حيث تعمل أبو ظبي على توظيف اللاعبين المسلحين ذراعًا تنفيذية خارج الالتزامات الدبلوماسية الرسمية.
- الهندسة الأيديولوجية والإعلامية: عبر صناعة خطاب يربط الاستقرار الإقليمي بمحاربة الإسلام السياسي والفاعلين الشعبيين، وهو خطاب يتقاطع مع مقاربة "تل أبيب" وواشنطن بعد ما يسمونه "الربيع العربي".
يرى كريغ أن هذه الأدوات سمحت للإمارات بتجاوز حجمها الجغرافي والديموغرافي، وهي تتحرك على أنها قوة متوسطة الطموح، لكنها تبقى — برأيه — جزءا من "تحالف أمني مضاد للثورات" تشكل بعد العام 2013.
أما كريستوفر ديفيدسون، وهو صاحب عمل "الإمارات العربية المتحدة: صعود دولة استبدادية"، يضع الصعود الإماراتي ضمن سياق تاريخي داخلي. هو يرى أن النخبة الإماراتية تبني نفوذها الخارجي لحماية نموذج الحكم نفسه، لا مجرد توسيع النفوذ. ووبرأيه؛ أبو ظبي تبني سياسة خارجية هجومية؛ لأن بيئة ما بعد "الربيع العربي" مثلت تهديدًا وجوديًا للنموذج السياسي الخليجي، ما دفع الإمارات إلى تمويل الثورات المضادة أو تأمين بيئات سياسية صديقة في مصر والسودان وتونس. كما يرى ديفيدسون أن تعاون أبو ظبي مع "إسرائيل" يتجاوز التطبيع السياسي أو الاقتصادي. هو، في جوهره، تحالف بقاء يربط بين نموذجين يرفضان أي صعود سياسي شعبي.
إذا جمعنا خطوط هذه القراءات الثلاث، نجد أنها تتقاطع في توصيف مركزي: الإمارات أصبحت لاعبًا محوريًا في إعادة رسم خريطة القوة بعد العام 2017، لكنها تفعل ذلك داخل شبكة تحالفات لا تنفصل عن مراكز نفوذ أكبر، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل.
هذا التحالف الثلاثي؛ وفقًا لكثير من التحليلات، هو ما يفسر السرعة التي تمددت بها أبو ظبي في مواقع لا يمكن لدولة بحجمها الوصول إليها بسهولة: من إدارة ميناء عصب في إريتريا بكونه قاعدة عسكرية، إلى تشغيل قوات وكيلة في اليمن، إلى بناء نفوذ داخل مراكز القرار السودانية قبل الثورة وبعدها، إلى الشراكات العسكرية والتكنولوجية غير المسبوقة مع "تل أبيب".
تدعم هذه المقاربة عدة وقائع عملية:
- الاتفاقات الأمنية بين أبو ظبي و"إسرائيل"، والتي شملت تكنولوجيا التجسس ومشاريع تتعلق بالتحكّم في الموانئ وطرق التجارة.
- التعاون في شرق المتوسط عبر منصات الغاز، حيث تشارك الإمارات اليوم في ترتيبات اقتصادية وجيوسياسية لم تكن جزءًا منها تاريخيًا.
- التحالف الإعلامي والدبلوماسي المشترك في مواجهة خصوم إقليميين؛ مثل تركيا وقطر.
تقدم هذه الصورة مجتمعة فهمًا أكثر تعقيدًا للدور الإماراتي: الدولة التي بدأت، وهي قوة اقتصادية تعتمد على الاستثمار والسياحة، تحولت في أقل من عقد إلى فاعل أمني وعسكري بأذرع ممتدة في قارات متعددة. لكن الجزء الأكثر إثارة للجدل — كما يشير ميلر وكريغ وديفيدسون — هو أن هذا الصعود لا يعكس مشروعًا استقلاليًا بقدر ما يعكس تموضعًا ذكيًا داخل شبكة قوة أوسع، تتقاطع فيها مصالح أبو ظبي مع مصالح "تل أبيب" وواشنطن في ضبط إيقاع المنطقة والتحكّم باتجاهاتها السياسية.
تلك الديناميات تجعل من فهم الدور الإماراتي ضرورة لأي قراءة معاصرة لمنطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط)، ليس لكونه ظاهرة منفصلة، بل لكونه جزءًا من التحالفات التي تعيد تحديد توازنات الإقليم منذ ما بعد "الربيع العربي"، وحتى اليوم.