وفاء بهاني (البناء)
العملية التي شهدتها مدينة سيدني منتصف هذا الشهر، واستهدفت تجمعًا دينيًا يهوديًا خلال احتفال في “عيد الأنوار”، لا يمكن فصلها عن سياق سياسي وأمني شديد التعقيد، ولا عن لحظة دولية تشهد فيها القضية الفلسطينية تحوّلًا غير مسبوق في الرأي العام العالمي. فحادثة بهذا الحجم، أوْقعت عددًا كبيرًا من القتلى والجرحى، وتطرح أسئلة مشروعة حول توقيتها، وأهدافها، والجهات التي سارعت إلى استثمارها سياسيًا وإعلاميًا، والأطراف التي خرجت منها بأكبر قدر من المكاسب.
الضرر الأكبر الناتج عن هذه العملية لم يطَل القتلى والجرحى وحدهم، بل أصاب قبل كلّ شيء النضال الفلسطيني نفسه، الذي راكم خلال الأشهر الأخيرة رصيدًا أخلاقيًا وإنسانيًا واسعًا في الوعي العالمي، بفعل الجرائم الصهيونية المرتكبة في غزّة، وسياسات التجويع والحصار والإبادة الجماعية. وقد انعكس هذا التحوّل بوضوح في تراجع السردية الصهيونية التقليدية القائمة على “المظلومية” وادّعاءات “معاداة السامية”، وهي سردية فقدت قدرتها على الإقناع أمام صور الأطفال الجوعى والبيوت المدمرة وخيَم النازحين الغارقة في أوْحال الفيضانات ومياه الأمطار. وكانت أستراليا إحدى الساحات التي شهدت هذا التحوّل، عبر احتجاجات شعبية واسعة ومواقف سياسية رسمية بلغت حدّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
في هذا السياق تحديدًا، تصبح عملية سيدني مادة جاهزة لإعادة تدوير خطاب قديم سعت المؤسسة الصهيونية إلى إحيائه، خطاب “الخطر الوجودي” و”التهديد الدائم لليهود في العالم”. ومن هنا يبرز سؤال المستفيد، إذ من الواضح أنّ هذه الجريمة وفّرت فرصة ذهبية لإعادة تقديم الصهاينة بوصفهم “ضحايا”، ولتوجيه رسائل ضغط وابتزاز سياسي لدولة كأستراليا خرجت عن الإجماع الغربي التقليدي في دعم الاحتلال.
ورغم المسارعة إلى اتهام أطراف إقليمية بعينها، ثمّ الكشف لاحقًا عن ارتباط المنفذين بتنظيمات متطرّفة، فإنّ التجربة التاريخية تحتم عدم الاكتفاء بالرواية السطحية. فلطالما استُخدمت جماعات متطرّفة، أو أفراد مشوّشون، أو ربما من تأثروا باشكال القتل والتدمير الصهيوني كأدوات في عمليات أمنية معقّدة تخدم أجندات استخبارية أكبر. وفي هذا الإطار، لا يمكن استبعاد أن تكون هذه العملية حلقة جديدة في سلسلة طويلة من العمليات التي حملت بصمات أجهزة مخابراتية، وفي مقدمتها الموساد، الذي يملك سجلًا موثقًا في توظيف العنف ضدّ تجمعات يهودية خارج فلسطين المحتلة لتحقيق أهداف سياسية واستيطانية.
التاريخ القريب والبعيد يقدّم شواهد عديدة على عمليات نُفذت أو وُجّهت بطرق ملتوية، بهدف تشويه صورة حركات التحرر، أو دفع يهود العالم للهجرة نحو فلسطين المحتلة، خصوصًا في العقود التي تلت النكبة، حين شهدت دول عربية عدة تفجيرات واعتداءات غامضة طالت معابد ومؤسسات يهودية، ثبت لاحقًا ارتباط بعضها بشبكات صهيونية سرية.
وما يعزز الشكوك حول عملية سيدني هو سرعة توظيفها سياسيًا من قبل نتنياهو وحكومته، سواء عبر محاولة إعادة تسويق خطاب “معاداة السامية”، أو استخدامها كورقة ضغط على الحكومة الأسترالية، أو حتّى كوسيلة دعائية لتشجيع الهجرة اليهودية باعتبار الكيان الصهيوني “الملاذ الآمن”. هذا النمط من الاستثمار السريع ليس جديدًا، بل يعكس عقيدة أمنية وإعلامية تقوم على استغلال الدم لتحقيق مكاسب إستراتيجية.
إنّ ما يجري اليوم من تحوّلات شعبية عميقة في الغرب يشكّل خطرًا حقيقيًا على المنظومة الرأسمالية المتوحشة التي تغذّي الحروب وتنهب ثروات الشعوب، وهو ما يفسّر حالة الارتباك السياسي ومحاولات الهروب إلى الأمام، سواء عبر افتعال الأزمات، أو إشعال النزاعات، أو توظيف أحداث دموية غامضة. ومن هنا، فإنّ عملية سيدني، مهما تعدّدت الأطراف المتورّطة فيها، تصبّ نتائجها في خانة واحدة: الإضرار بالقضية الفلسطينية وتشويه نضالها العادل.
ولهذا، يبقى واجب الفلسطينيين وأنصار قضيتهم التمسك بأخلاقية النضال وشرعيته القانونية والإنسانية، ورفض الانجرار إلى مسارات تخدم أعداءهم، مع الاستمرار في فضح الجرائم الصهيونية وتوثيق معاناة غزّة، حيث يموت الأطفال بردًا وجوعًا، وتُقتلع الخيام، وتُسحق أبسط مقومات الحياة، تحت سمع وبصر العالم. فهذه الحقيقة، لا أيّ عملية مشبوهة، هي التي ستبقى الشاهد الأقوى على عدالة القضية الفلسطينية ومظلومية الشعب الفلسطيني واستمرار العدوان على شعبنا في غزّة وحرمانه من أبسط أسباب الحياة في ظلّ تلكؤ الكيان الصهيوني في تطبيق اتفاق وقف النار.