أوراق ثقافية

حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية: إنجاز معرفي بمتناول الجميع

post-img

لم يحدث في تاريخ العرب والناطقين بالعربية أن كان أمامهم معجم تاريخي بهذه الدرجة من الاكتمال لهذه اللغة، قبل هذا اليوم الاثنين الذي أعلنت فيه قطر اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، متممة جهودًا جبارة عملت فيها فرق العلماء الخبراء لأزيد من 12 عامًا. في قاعة كتارا بفندق فيرمونت رافلز في مدينة لوسيل رعى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفل اكتمال المعجم، هو الذي كان مهتمًا بالمشروع منذ أن كان وليًا للعهد، بحضور عدد كبير من الضيوف، وزراء وشخصيات عامة وأكاديميين وخبراء لغة وصحافيين ومهتمّين من قطر ومختلف البلدان العربية، تخللته كلمات تناولت الحدث الاستثنائي وعرض مواد مصوّرة حول مسيرة المشروع، وفي الختام تكريم العاملين في المعجم، وأعضاء المجلس العلمي.

في منشور على منصة إكس، كتب أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني "نفتخر في قطر باكتمال 'معجم الدوحة التاريخي للغة العربية'، الذي يعزز بمادته الثرية تمسك شعوبنا بهويتها وانفتاحها على العصر ووسائله الحديثة بكل ثقة. وهذه مناسبة لشكر كل من ساهم في هذا المنجز الحضاري التاريخي الذي نعتبر اكتماله ومراحل إنجازه مظهرًا من مظاهر التكامل العربي المثمر".

في كلمته قال عزمي بشارة المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إن مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية أتاح المجال لمئات الباحثين من أكثر من خمس عشرة دولةً عربيةً الإسهام في مشروعٍ نهضويّ تنويري، حيث تكاملت خبراتهم وترافدت أيديهم في إنجازه.

الشيخ تميم بن حمد: يضع المعجم العربية في موقع ريادي بين اللغات

الكلمة المفتاحية التي تحمل سر هذا المشروع الضخم، هي الجرأة، كما قال بشارة غير مرة في سياق حديثه عن معجم بالفعل ينجز لأول مرة، وعبارة "أول من.." التي يُفضّل أن يلازمها ضميرا أنا ونحن، ذكرها بشارة مع التحفظ بوصفها كليشيه دارجًا لتسابق مجوّف على الأوّلية. بيد أن الحقيقة التاريخية هي هذا المعجم الذي بين أيدينا، استكمل طريقه نحو الإنجاز، لأول مرة، بعد محاولات عربية سابقة، منذ الثلث الأول من القرن العشرين، مع العلم أن هناك لغات أقل حيوية وعمقًا من لغتنا حققت معجمها التاريخي منذ أواسط القرن التاسع عشر.

دائمًا هناك معاجم وقواميس. وفي تاريخها ثمة فارق جوهري بين أن تعرّف كلمة، وأن تؤرخها وتحيط بوجودها وسيرورتها وسياقاتها في مسح أفقي وعمودي واسعين، وهذا كله حين يحدث فإنما يسمى "معجم تاريخي". التعريف يفترض معنى ثابتًا، مستقرًا، قابلًا للنقل من معجم إلى آخر. أما التأريخ، فيفترض أن المعنى متحرك، وأن الكلمة أثر يتبدّل عبر القرون، وبالتالي فإن وظيفة المعجم ليست الشرح فحسب، وإنما الكشف عن طبقات الاستعمال المتراكمة في النصوص.

ما شهدناه اليوم بوصفه هدية الدوحة إلى الأمة العربية ينتمي إلى الصنف الثاني. هذه المرة صار ممكنًا ومتاحًا للجميع اللجوء إلى أداة استجواب تاريخية موثّقة بالشواهد، تُظهر كيف تحرّكت الكلمة عبر القرون، وانتقلت من حقل دلالي إلى آخر، ثم كيف استُعملت في سياقات مختلفة. وهذه الإتاحة العامة هي بنت التقنية في ذروتها الكبرى من الرقمنة حيث المعجم في تطبيق على الهاتف الجوال وفي الحاسوب، متضمنًا أرقامًا معلنة تشي بحجم العمل: 300 ألف مدخل معجمي، مدونة تقارب مليار كلمة، عشرة آلاف مصدر في البيبليوغرافيا، عشرة آلاف جذر صرفي.

الأهم من الأرقام، مع ذلك، المنهج: كل مدخل مربوط بشاهد نصّي محدّد، ومؤرّخ، وكل إحالة قابلة للمراجعة. لربما كان المعجم هو الحالة الديمقراطية الشعبية النادرة في عالمنا العربي، إذ يبدي على الدوام ترحيبه بأي تصويب لأي سهو أو تعديل في شاهد، بعد التثبت منه، داعيًا بوضوح كل العرب والناطقين بها، إلى عدم التردد في ملاحقة أي خلل.

بشارة: الجرأة كانت المفتاح لإنجاز معجم تاريخي شامل للعربية

لا بد من معجم تاريخي. هذا ما يقوله مباشرة رمزي البعلبكي رئيس المجلس العلمي للمعجم، في الفيلم القصير الذي أنتجه المركز العربي حول هذه السنوات التي بدأت رسميًا 2013. يقول البعلبكي "ما من حضارة تسعى إلى نهضة لغوية، بل إلى نهضة فكرية عامة، إلا وأنجزت معجمًا تاريخيًا لتلك اللغة". وفي ملاحظة توضيحية تبدو ضرورية مفادها عند البعلبكي أن هناك من يقول من خارج الاختصاص إن إنجاز معجم تاريخي أمر سهل، "ولا ألوم من يفكر على هذا النحو، لأن فكرة المعجم التاريخي بحد ذاتها بسيطة وهي أن يحدد التاريخ الذي استخدمت فيه المفردة للمرة الأولى، ثم أن يُنظر في تطورها الدلالي. إلا أن من أبعد الأشياء عن الصواب أن إنجاز المعجم أمر بسيط".

أما كلمة عز الدين البوشيخي المدير التنفيذي للمعجم، فطرح فيها البيان الشامل الذي يلخص الفكرة والهدف الحالي والمستقبلي قائلًا إن المشروع قام على حفظ ألفاظ هذه اللغة ومعانيها وشواهد استعمالاتها ومستعمليها، في النقوش وفي النصوص، وعليه حفظ هوية للمتكلم العربي اللغوية وبنى ذاكرته المعجمية المشتركة.

وقفت لولوة الخاطر وزيرة التربية والتعليم والتعليم العالي القطرية في كلمتها أمام محورين، الأول يدور حول العمق والجدية والاستمرارية التي يمثلها المشروع، إذ إن هذه الجدية لم تعد لها سوق رائجة في ظل ما يمكن تسميته الحالة الموسمية للمشهد الفكري العربي، على حد تعبيرها.

المحور الثاني هو "القدرة على الجمع وتأليف القلوب والألباب من خلال صهر التباينات بين المشتغلين على هذا العمل، فهم قدموا من مشارب مختلفة إلا أنهم اجتمعوا لأكثر من عشر سنوات في سبيل مشروع جامع نافع". وأبدى سالم بن محمد المالك المدير العام منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) استعداد المنظمة لوضع إمكاناتها في خدمة هذا المعجم، داعيًا إلى شراكة استراتيجية طويلة المدى "ليعم خير المعجم في كل العالم".

من أقدم مجمع لغة عربية في الوطن العربي كان محمود أحمد السيد رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق ضيفًا على الحفل، متحدثًا في كلمته عن الاستثمار في اللغة العربية على الصعيدين العربي والعالمي وبخاصة في الدول الإسلامية. دعا السيد أخيرًا إلى التكامل بين اتحاد مجامع اللغة العربية وبين المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في قطر ما دام الطرفان يعملان معًا لتمكين للغة العربية والنهوض بها.

في ختام الحفل كرم أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني العاملين في المعجم من الخبراء والإداريين وهم: عز الدين البوشيخي المدير التنفيذي للمعجم، ودانة عزام أبو سنينة، مقبل التام الأحمدي، ومحمد محمود محجوب، وأدي ولد آدب، ومحمد بباه، ورشيد بالحبيب، وأيمن بن نجي، وخالد الجبر، ويحيى محمد الحاج، وعبد المنعم حرفان، ومحمد الخطيب، ومحمد رقاس، وحسين الزراعي، وزينة سعيفان، وعلاء الشاطر، وخير الله الشريف، ومحمد الشيباني، وخديجة الصلابي، ومحمد العبيدي، وندى نور الدائم.

أما أعضاء المجلس العلمي الذين كرّموا فكانوا على النحو التالي: رمزي البعلبكي رئيس المجلس، وإبراهيم بن مراد، وحسن حمزة، وعبد السلام المسدّي، والشاهد البوشيخي، وعبد الكريم جبل، ومحمد حسان الطيان، ومهدي عرار، وعبد القادر الفاسي الفهري، وسهام الفريح، ورياض زكي قاسم، وعلي أحمد الكبيسي، وعلي محمد المخلافي، محمد بن سالم المعشني، والطاهر ميلة، وعبد الحميد الهرامة، وعبد العلي الودغيري.

عقب الاحتفال انطلقت أعمال مؤتمر "الذكاء الاصطناعي وخصائص اللغة العربية"، على مدار يومين، ويقف المؤتمر على جملة من المحاور، منها أثر الخصائص اللسانية للغة العربية في المعالجة الآلية واستخدامات الذكاء الاصطناعي، وتحليل تحديات النمذجة اللغوية للعربية في ظل الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتقييم تجارب ومبادرات معاصرة في بناء موارد لغوية تخدم تطور الذكاء الاصطناعي العربي.

عند بلوغ هذا الإنجاز لا يتحدث القائمون عليه عن تمام العمل، باعتبار العمل المعجمي أشهر دليل على نقصان البشر، بل يتبنون جميعًا السؤال الذي سيُطرح لاحقًا، حول الاستعمال. الباحثون في اللسانيات التاريخية، في الدراسات القرآنية، في تاريخ العلوم، في الفلسفة الإسلامية، في الدراسات الأدبية، كلهم سيجدون في المعجم أداة لم تكن متاحة من قبل. وبالتالي فإن ما ينتظر تغييره هو شكل البحث نفسه، إذ يصير الاحتجاج بالشاهد المؤرّخ جزءًا من الممارسة الأكاديمية، وأن يُختبر الافتراض اللغوي بالرجوع إلى المدوّنة، لا بالاعتماد على الحدس أو الذائقة.

ما افتُتح اليوم ليس "كتابًا" يُضاف إلى المكتبة، بل منصة عربية كبرى تنتظر من يشتغل عليها، ويبني أبحاثه وأطروحاته عليها بغية إعادة النظر في يقينيات لغوية أو تاريخية اعتمادًا على شواهده، والترجمات التي ستُصوَّب بالرجوع إلى معانيه المؤرّخة. هذا هو الرهان الحقيقي.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد