هي بقعة الدَّم نفسها التي تحوَّلت إلى بِرْكَةِ دم منذ أولى مجازر التهجير في دير ياسين والطنطورة، مرورًا بمجازر خان يونس والحرم الإبراهيمي وجنين، وصولًا إلى صبرا وشاتيلا، وليس انتهاءً بمَقْتَلَتَيْ غزة والضفة الغربية حاليًا. بركة الدَّم التي صارت الآن مستنقعًا غرق في أوحاله ما يسمى زورًا المنتظَم والرَّأي العام الدولي والقانون الدولي. في غمرة هذه التَّضحيات الجِسام، يحتاج الضَّمير الجمعي للشعوب إلى مُنشِدٍ وراوِيَةٍ يخلِّدان الوقائع في السِّجِلِّ الأدبيِّ والفنِّيِّ للذاكرة الجماعيَّة، لا فقط للاحتفال وترف الذّكرى، وإنَّما لاستنهاض الهِمَم عبر ربط الحاضر بالماضي في صيرورة استكمال الطَّريق نحو الاستقلال الوطني وبناء الدَّولة الوطنيَّة الديموقراطيَّة الواحدة. جريًا على هذه الرؤية، نقدِّم باقةً من النُّصوص تشهد لا على الذّكرى الـ 42 لمجزرتي صبرا وشاتيلا فحسب، وإنَّما حتَّى على المجازر المرتكَبة حتى اليوم في غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان واليمن والسودان، بمباركة من ذوي القربى وتواطؤ القوى الغربيَّة
محمود درويش:
صبرا فتاة نائمة
رحل الرجال إلى الرحيل
والحرب نامت ليلتين صغيرتين،
وقدمت بيروت طاعتها وصارت عاصمة...
ليل طويل
يرصد الأحلام في صبرا،
وصبرا نائمة.
صبرا — بقايا الكف في جسد القتيل
ودّعت فرسانها وزمانها
واستسلمت للنوم من تعب، ومن عرب رموها خلفهم.
صبرا — وما ينسى الجنود الراحلون من الجليل
لا تشتري وتبيع إلا صمتها
من أجل ورد للضفيرة.
صبرا — تغني نصفها المفقود بين البحر والحرب الأخيرة:
لمَ ترحلونَ
وتتركون نساءكم في بطن ليلٍ من حديد؟
لمَ ترحلونْ
وتعلّقون مساءكم
فوق المخيم والنشيد؟
صبرا — تغطي صدرها العاري بأغنية الوداع
وتعد كفيها وتخطئ
حين لا تجد الذراع:
كم مرة ستسافرونْ
وإلى متى ستسافرونْ
ولأي حلم؟
وإذا رجعتم ذات يومْ
فلأي منفى ترجعون،
لأي منفى ترجعون؟
صبرا — تمزق صدرها المكشوف:
كم مرةْ
تتفتح الزهرةْ
كم مرةْ
ستسافر الثورة؟
صبرا — تخاف الليل. تسنده لركبتها
تغطيه بكحل عيونها. تبكي لتلهيه:
رحلوا وما قالوا
شيئًا عن العودة
عادوا وما عادوا
لبداية الرحلة
والعمر أولاد
هربوا من القبلة.
لا، ليس لي منفى
لأقول: لي وطن
صبرا — تنام. وخنجر الفاشي يصحو
صبرا تنادي... من تنادي
كل هذا الليل لي، والليل ملح
يقطع الفاشي ثدييها — يقل الليل —
يرقص حول خنجره ويلعقه. يغني لانتصار الأرز موالًا،
ويمحو
في هدوء... في هدوء لحمها عن عظمها
ويمدد الأعضاء فوق الطاولة
ويواصل الفاشي رقصته ويضحك للعيون المائلة
ويجن من فرح فصبرا لم تعد جسدًا:
يركبها كما شاءت غرائزه، وتصنعها مشيئته.
ويسرق خاتمًا من لحمها، ويعود من دمها إلى مرآته
ويكون — بحر
ويكون — بر
ويكون — غيم
ويكون — دم
ويكون — ليل
ويكون — قتل
ويكون — سبت
وتكون — صبرا.
صبرا — تقاطع شارعين على جسد
صبرا نزول الروح في حجر
وصبرا — لا أحد
صبرا — هوية عصرنا حتى الأبد
عَدَوان علي الصالح:
امنحيني الصبر يا صبرا
امنحيني الصبر یا صبرا امنحيني
واجعلي الشمس تضيء الآن في شكلٍ حزینِ
وأعلنيها للوری أنه مهما فعلوا
لن تخضعي... لا... لن تليني
واكتبي أسماء من قد قتلوهم
فيك یا صبرا على كل جبينِ
■ ■ ■
أنا غضبان وثائرْ
فاغضبي مثلي وثوري
علها تصحو الضمائرْ
لست أدري كيف يا صبرا أناجيك
وأنت اليوم یا صبرا تشوهك المجازرْ
فالذي فيك جرى يعجز عنه وصف شاعرْ
■ ■ ■
إن أقول الصبر یا صبرا جميلُ
ودم الشعب لنور الفجر یا صبرا دلیلُ
لست أبكي كيف أبكي
کیف يا صبرا وهل يبكي القتيلُ؟
آه كم صبرك يا شعبي طويلُ
■ ■ ■
صابر أنت على كل المآسي والمظالمْ
صابر أنت وما زلت تقاومْ
وعلى شبر ترابٍ أنت يومًا لن تساوم
بعد هذا اليوم لن يوجد فينا أي نائم.
-----------
مشهدٌ وفصل من رواية
أكرم مسلَّم:
بنت من شاتيلا (*)
- مشهد افتتاحي
مسرح معتم دون جمهور أو ممثلين. يُسمَع فقط صوت أنثوي ممزّق، من وراء ستارة سماوية: «لا تتحركي». قال المصور ذو الملامح الغربيّة. قال ذلك بلكنة غريبة، لكنّها مفهومة. كانت ذبابة تحطّ على جبهتي المتعرّقة، تمامًا تحت غرّتي المتلبدة. الذبابة ثقيلة جدًا. ذباب الجثث ثقيل جدًا. لقد خَبِرت ذلك جيدًا. أردت أن أشيح بيدي لأطرد الذبابة. لكن إلحاح المصوّر على ألا أتحرك كان أقوى من رغبتي. استجبت لطلب المصوّر ولم أتحرك، فبقيت الذبابة على جبهتي، وظَهرت في الصورة. ذباب الجثث وقح وبليد، له طنين قوي وحاد وبشع، ويَحدث أن يظهر في صور المجازر. لا أعرف إن كان المصوّر قد شاهد الذبابة عبر عدسته وتعمّد إبقاءها، للضرورة، فطلب ألا أتحرّك حتى لا تطير الذبابة، أم أنه لم يرَها. لا أعرف، وربما لن أعرف أبدًا. أعرف أن ذباب الجثث قذر. يجب طرده بعيدًا. فهو يندَسّ في فتحات أنوف الموتى، ويضع فيها بيوضه الكثيرة. لقد خبِرت ذلك جيدًا. كنت جالسة على عتبة البيت، العتبة عالية قليلًا، الباب الخشبي السميك مفتوح. جثة أمي وجثث أخواتي وإخوتي ورائي في الفناء. اضطر المصوّر للرجوع إلى الخلف؛ إلى داخل الفناء المقابل لفناء بيتنا. أراد أخذ مسافة كافية لنظهر جميعًا في الصورة، فالعتبة ملاصقة للطريق، وطرق المخيم ضيقة جدًا. يَصعب التقاط صورة جماعية في زقاق مخيم لاجئين حدثت فيه مجزرة. ينبغي الرجوع ودخول فناء الجيران من أجل ذلك. لقد خَبِرت ذلك جيدًا. أتذكره تمامًا؛ مصوّر حروب بعين واحدة. يغطي مكان العين المفقودة بلاصق طبّي أبيض بيضاوي الشكل، يبدو اللاصق خشنًا. التقط الصورة، تعالت بعدها صرخات مرعبة. اكتُشفت كومة جديدة من الجثث. ارتبك، صار ينظر إليّ وإلى اتجاه الصوت مترددًا، وكأنه لم يرد أن يتركني، تقدم مني وأعطاني الكاميرا. صارت معي كاميرا حقيقية، وليست كاميرا/ دمية، لكنني فقدت العائلة، عندما تمتلك كاميرا فخمة دون عائلة تلتقط صورًا لها تشعر بحسرة أعمق. أحسست وكأنه أعطاني عينه؛ عينًا ثالثة للبكاء، أعطاني عينه الوحيدة وصار أعمى، احتضنت الكاميرا وبكيت وبكيت، ومضى هو يتحسس الطريق ويتعثر بالجثث، دون أن أعرف حتى اسمه. في أوقات السلم، ينام الميت وحيدًا محاطًا بأناس كثيرين يبكون، في المجازر ينام ميتون كثيرون، يقف بينهم حيّ وحيد باكيًا، يحتاج إلى عين ثالثة لكي يبكي على الجميع. لقد خبرت ذلك جيدًا. غريب أمر الإنسان؛ هناك من يعطيك عينه الوحيدة، وهناك من يأخذ أرواح عائلتك كلّها! في الصورة تظهر الجثث جميعها خلفي، لكن الكاميرا غبية، غبية. كان أجمل ما في أمي رائحتها، لكنها صارت مريعة بعد تلك الليلة. عندما تموت الأم تموت رائحتها، تصبح فطِسة. هذا مريع، مريع، ولا ترصده الكاميرا. لقد خَبِرت ذلك جيدًا. كانت تلك أول صورة جماعية تلتقط للعائلة، على ما أظن، وآخر صورة، لا شك في ذلك. صورة ملوّنة. احتفظت خالتي بالصورة في صندوق في مكان عالٍ، لأنني حاولت تمزيقها، أو على الأقل كشط الذبابة من تحت غرّتي، كانت الذبابة تضايقني. استغربت خالتي، وقالت إنها لا ترى أي ذباب، مع أن الذبابة واضحة تمامًا. قالت إن الناس عندما يتعرضون لتجارب صعبة قد يرون أشياء غير موجودة. وأنا أقول إن الناس قد يكفّون عن رؤية أشياء موجودة عندما يتعرضون لتجارب صعبة. لقد خبرت ذلك جيدًا. ما زلت أسمع صوت المصوّر وكأنه الآن يقول بلكنة غريبة، لكنها مفهومة: «لا تتحركي»، «لا تتحركي». في الواقع أنا كنت ثابتة، وغَلبتُ رغبتي الملحّة في طرد الذبابة. هو الذي كان يرتجف ويرتجف. كنت صغيرة، بنتًا في السادسة من عمرها. أحسست بأنني لو قلت له إنني ثابتة، وإنك أنت مَن يرتجف، فإن صوتي لن يصل. صوت الأطفال الصغار في المجازر الكبيرة لا يصل. لقد خبِرت ذلك جيدًا.
- حورية أَلْستا، هامبورغ 2004
لو أن العجوز الألمانية لم تمت، وأطلت من شرفتها، لكانت شاهدت الشاب الأنيق الذي تسبّب في موتها، ولكانت تعرّفت إليه، إذ إنه لم يبدّل بلوزته الخمرية وبنطاله الزَيتيّ ذا الجيوب الجانبية الكثيرة.
يفصل شارع عريض بين بناية العجوز وبين الركن من البحيرة الذي استهوى الشاب طوال إقامته في هامبورغ.
لم يكن يعرف أنّ العجوز التي التقاها، أمس، ماتت، وأن حديثه، أمامها ومعها، ربما تسبب بشكل من الأشكال في موتها. لم يكن يعرف أنها تقيم على مقربة من الركن الذي استهواه، حتى إنه لم يكن يعرف اسمها، لكن ملامحها وحديثهما القصير انطبعا في ذاكرته.
بعد حديثه إليها عادت إلى شقتها، وهناك سكتت أنفاسها إلى الأبد.
لو أن العجوز لم تمت، وأطلت من شرفتها، لشاهدته ينحني من حين إلى آخر، يرمي رقائق البطاطا على سطح الماء فتتحلق حولها بطات صغيرات. كان يفتت الرقائق برؤوس أصابعه، فيما تمسك هي الريموت كونترول بأصابعها المتيبسة، وتحدّق بعينين مطفأتين بشاشة التلفزيون الصامت. وقع اختيارها على قناة arte الثقافية الأوروبية لحظة موتها. القناة واصلت بثّ برامجها كالمعتاد، وكأن موتًا لم يحدث.
تجلس العجوز الميتة على كرسيّ خيزرانيّ ذي مسند عريض، ملاصق لكنبة عشبية اللون أقل ارتفاعًا. اعتادت التنقل بين المقعدين، من باب التغيير، واعتقادًا منها أنّ ذلك جيد لصحة عمودها الفقري.
يجلس الشاب الأنيق أرضًا فوق كيس بلاستيكي. توشك الشمس على الغياب. مساءات هامبورغ باردة في أيلول. خدعه دفء النهار، تمنى لو أحضر سترة خفيفة، فجمالية المشهد تغريه بالبقاء: صرخات أناس فرحين تأتي من قوارب سياحية، أصوات عزف متداخلة قادمة من بعيد، أناس يركضون حول البحيرة، حافلات حمراء من طابقين مكتوب عليها «هامبورغ تور» تطلّ منها رؤوس متنزهين يلتقطون صورًا لكل شيء.
ظهرت على يسار الشاب الأنيق بنت جذابة، لم ينتبه للحظة مجيئها. بدت له كأنّها حورية ألقت بها البحيرة لتُجلسها على مقعد إسمنتي يتسع لشخصين لم يكن انتبه لوجوده.
يليق بجسد الفتاة الفارِه ورسمة حوضها، محاكاة جلسة الحوريات كما ترسمها كتب الأساطير: كانت تطوي قدميها تحتها على نحو جانبي، جذعها مائل للوراء قليلًا، فيما تحدّق عيناها في البعيد.
قرر الشاب — في واحدة من اندفاعاته — اقتحام عالم البنت. نفض بقايا كيس الرقائق على سطح الماء، فتسابقت البطات تلتقط ما رماه، وقف ساحبًا الكيس الذي يجلس عليه، واقترب من سلة قمامة قريبة من المقعد الإسمنتي، ألقى الأكياس الفارغة محدثًا جَلَبة متعمدة. لم يثر تحركه انتباهها.
سألها مباشرة، بالإنكليزية:
— عفوًا، ماذا يسمّون هذه البحيرة؟
أدارت وجهها قليلًا، نظرت في مركز عينيه المتسائلتين، بعينين تشعّان بالثقة:
— أَلْستا، اسمها أَلْستا.
— أنت عربية إذًا.
— صحيح، فلسطينية.
— فلسطينية من أين؟
— من شاتيلا.
أربكه الجواب. أن تنجذب لبنت في هامبورغ، تبدو لك حورية بحر، فيصفعك اسم مجزرة!
صمت. قدّر بسرعة أنها مجايلة له. هذا يعني أنها ربما كانت هناك. هو لم يكن هناك، لكن هناك أتى إليه، وعاش معه. تزامن ارتكاب المجزرة مع دخول أول جهاز تلفزيون إلى بيته. كان في السادسة من عمره. تعمّد أبوه المذهول أن يقف بينه وبين الشاشة، لكن حذر الأب لم ينجح في كبح فضول الابن. لقد رأى بوضوح الجثث المنتفخة. رأى أكوام موتى، وسمع صراخ مفجوعين.
يبث التلفزيون باللونين الأبيض والأسود، لكن حمرة الدم كانت في منتهى الوضوح!
جاءته المجزرة إلى بيته على شكل صور على شاشة، وها هو جسد قادم من المجزرة يفاجئه على شاطئ بحيرة، جسد بدا أوّلها كأنه فضيحة حياة، فصار فجأة إشارة موت.
— أنا من رام الله. قال، وجلس إلى جانبها على المقعد الإسمنتي ذي المساند الخشبية بعدما عدّلت جلستها قليلًا ليتسع المقعد لكليهما.
بدا عليها ترحيب مشجّع، لكنه غير مندفع.
— ما الذي جاء بك إلى هامبورغ؟ سألت.
— جاء بي ابن لادن. قال مازحًا.
ارتسمت ملامح حياد على النصف المرئي من وجهها. قدّر أثناء صمتها أن مزحته لم تكن موفقة، فبعد تفجير البرجين في نيويورك، قد يجلب مجرد ذكر اسم ابن لادن الكثير من المتاعب، خصوصًا في هامبورغ، أو ربما أشعرتها مزحته بنوع من التذاكي، فقررت عدم التواطؤ مع تذاكيه.
عندما سألها عن سبب وجودها في هامبورغ، ردّت عليه المزحة بمثلها، قائلة إن بنت لادن أرسلتها، مرتجلة لقبًا لخالتها في المخيم.
أحست بارتجافاته الخفيفة من البرد. عرضت عليه بتلقائية أن يشاركها الشال الزيتيّ الطويل المنسدل على كتفيها فلم يمانع.
ها هو يلفه شال واحد مع جسد قادم من مجزرة.
لو أن العجوز الألمانية لم تمت، وراقبت المشهد من شرفتها، لرأت المقطع الخلفي للشاب الأنيق يلفه شال زيتي مع بنت ظهرت فجأة. ربما كانت ستستغرب الوتيرة التي تقدمت فيها الأمور، وإذا كان في قلبها بقايا طيش، ربما كانت ستتخيل نهاية ماجنة لهذا التعارف، لكنها كانت غارقة في موتها.
أتاحت نظرات الشاب للمقطع الجانبي من الحورية له الإحاطة بتفاصيلها: وجهها المائل إلى الطول، انتفاخ شفتيها، اتساع عينيها السوداوين، سُمرتها الخفيفة، شعرها نصف الغجري.
تمنى لو أنهما يجلسان وجهًا لوجه. يخلق الجلوس جنبًا إلى جنب مسافة تصعّب التواصل.
أحس بدفء جسدها يعانق دفء جسده تحت الشال، مع أنهما لم يكونا متلاصقين.
حاول أن يتغلب على تشوشه وأن يكون تلقائيًا.
أخبرها أنه لم ينتبه إلى لحظة وصولها، وأنه لمّا رآها خطر له أنها حورية ألقت بها البحيرة.
أدارت له كامل وجهها، فانكشف له بقايا جرح طويل غير منتظم الحواف على النصف غير المرئي من وجهها.
كان أكثر ما تخشاه، أن يتعرف إليها أحد من الجهة السليمة، فيبادر لامتداح جمالها، ثم ينسحب من المديح بعد رؤيته الجهة الأخرى، حدث الأمر مرارًا، وكان جارحًا، لذا اعتادت المبادرة إلى كشف الجرح، خصوصًا قبل أن ترممه جزئيًا.
لم تنتقص بقايا الجرح المرمّم من جمالها، ولم تصدم الشاب الأنيق.
افترض — وهو شخص مدمن على الافتراضات — أنّ الجرح أثر من آثار المجزرة. لم يعرف من أين يبدأ الحديث ولا كيف يغلقه، فأسعفته هي عندما استوضحت منه عن طبيعة زيارته إلى هامبورغ، وعلاقة الأمر بابن لادن.
أخبرها أنه طالب دراسات ثقافية عليا في جامعة بيرزيت، يشارك في برنامج تبادل أكاديمي: استجدت مشاريع كثيرة كهذه بعد هجمات أيلول؛ لقد حرّكت الهجمات فضول الغرب لمعرفة المزيد عن «بلد المنشأ».
قالت له بشيء من السخرية:
— ربما كان من الأجدر دعوة أشخاص ينتمون إلى ثقافة ابن لادن، وليس طالب دراسات ثقافية، من أجل إشباع الفضول. ويمكن أيضًا الاستفادة من معرفة الأميركان، لا أحد يعرف هؤلاء مِثل أولئك.
نبهته ملاحظتها إلى أنه يتعامل مع بنت غير سهلة، وأنه لا يوجد ما يدعوه إلى افتراض عكس ذلك.
ما بدا له كحورية بحر، انكشف له بداية عن مجزرة، ثم عن جسد مجروح.
لو كان يعرف أيضًا أنّ عجوزًا ميتة تدير ظهرها للبحيرة فيما تحدّق في شاشة، على بعد أمتار منه، وأن موتها على صلة به، لاكتملت حوله دائرة الشؤم.
أخبر البنت أشياء عن نفسه، استعرض تفوقه الأكاديمي الذي أتاح له تعلُّمًا شبه مجاني، وضمن له الفوز بهذه الرحلة، وتطرّق إلى عصاميته، وعمله حتى وقت قريب حارسًا لمعرض سيارات حديثة في رام الله، ولكنه سرعان ما سيكتشف أن تجربة البنت أكثر نضوجًا بكثير من تجربته، وأنها تعبر عنها بتلقائية لذيذة، وفيما يحوّل هو كلّ حديث إلى ما يشبه نقاشًا في محاضرة دراسات ثقافية، تعبر هي عن خساراتها ببساطة تزيدها عمقًا، بدا له ذلك واضحًا عندما سألها عن مكان عملها، وأخبرته أنها تعمل «رِجل جَمَل».
هذه ليست مزحة، إنه مسمّاها الوظيفي، فقد جمعتها المصادفة مع شبان مغاربة، سبقوها إلى الهجرة بسنوات، أسسوا فرقة أطلقوا عليها اسم «فن- شرق». ترى الحورية أن علاقة الفرقة بالفن — مثل علاقتها بالشرق — متواضعة، لكنها تتيح في النهاية فرصة عمل تلائمها في هذه المرحلة، فهي رغم كونها خريجة إعلام، ومتابِعة جادة لكل ما يتعلق بالمسرح، تحتاج إلى فسحة كي تتأمل حياتها، قبل أن تحدد وجهتها.
تقدّم الفرقة فقرات عزف على العود، وضرب على الطبول، فيما يقتصر دور الحورية على المشاركة في فقرة اسمها «عَرض الجَمَل». صمم القائمون على الفرقة، في مرحلة من مراحل عملهم، مجَسّم جَمَل، يماثل حجمه حجم الجَمَل الحقيقي، ظاهره من قماش وباطنه هيكل خشبي. يختفي شخصان تحت القماش وهما يحملان الهيكل. مع إشارة البدء يخرجان من وراء ستار على إيقاع موسيقى شرقية، يحاكيان جري الجَمَل الخفيف، فيما يحرّكان عبر حبال قصيرة وبَكَرات رأس الجَمَل يمينًا ويسارًا. تتراقص على هيكل الجَمَل كرات صوفية فاقعة الألوان وأجراس نحاسية صغيرة. تحتل الحورية موقع الرِجلين تحت المجسّم. تجلس في نهاية العرض أرضًا بالتزامن مع جلوس الشاب الذي يحتل موقع اليدين، في حركة إناخة، ثم ينهضان بالجَمَل ويحنيان رأسه وكأنه يحيي الجمهور الذي يصفق بدوره بحماسة كبيرة.
وظيفة غريبة فعلًا، لا تقارن بحارس معرض سيارات!
قرّب برد هامبورغ الليلي وانسياب الحديث جسديهما أكثر، أحس بدفئها أكثر من تحت الشال، لكن الدفء كان بحكم المجزرة ملتبسًا.
لا عروض لديها في الغد، نصحته بالحضور صباحًا إلى المكان نفسه، حيث تجلس هي معظم الأيام مساء، وفي الإجازات صباحًا، ليذهبا من هنا ويتغديا معًا. أرادت تعريفه إلى مطعم من نوع خاص سوف يفيده كثيرًا، إذ سيتيح له التعرف إلى الناس، والاستماع إليهم مباشرة، بعيدًا عن ما أسمته «البرامج الرسمية الموجهة».
وافق بحماسة. فلا التزامات لديه، ولا يزال لديه فضول كبير نحوها تحديدًا، ونحو المجزرة التي تسكنه. لم يدع قصاصة ورق كُتبت عن المجزرة دون أن يقرأها، وما زالت ذكرى جسد أبيه الضخم وهو يحجب مشاهد الجثث على الشاشة الصغيرة وكأنها حدثت بالأمس القريب.
ثم إنه تورّط معها. لقد خدشت صورته عن نفسه. قاس الأمر دائمًا بتفوقه الأكاديمي، وهذا لم يصمد بما يكفي في نقاشهما. كان يبحث في تواصله معها عن فرصة لترميم تصوره عن نفسه، أراد أن يتفوق عليها، لكنه كان يغرق أكثر، على مدى أيامه العشرة في هامبورغ.
مَشيا معًا. قطعا الشارع إلى الجهة المقابلة، مرّا من تحت شرفة العجوز الميتة، اجتازا متحف كونسهالي الضخم، كان المتحف علامته لكيلا يفقد طريق العودة إلى شقته.
اجتازا محطة القطارات المركزية: مشردون كثيرون على الأرصفة، ضجيج، زجاجات بيرة فارغة من مختلف الماركات، رائحة بول ممزوجة بصوت موسيقى كلاسيكية!
عندما أشار إليها أن طريقه إلى اليسار، استأذنته، ذكّرته بإمكانية اللقاء في الغد، وسارت يمينًا.
افترض أنها غير معنية بذكر عنوان سكنها عندما أخبرها أن شقته تقع قريبًا جدًا.
في الشقة، ألقى نظرة على ملابسه المعلقة والمنسّقة والمكويّة جيدًا، وخطط لما سيرتديه في الغد.
أعدّ كأس شاي بميرمية أحضرها معه من رام الله وخرج إلى الشرفة. جلس على الكرسي الخشبي حيث شرب قهوته الصباحية.
تطل شرفته على شرفة مقابلة تمامًا، يفصلهما شارع «لانغ رييه».
على الشرفة المقابلة كرسيان، جلست على إحداهما قبل الشمس بساعة فتاة تغطي نصفها العلوي بمشدّ صدر أسود، والسفلي بشورت سَتان أسود أيضًا، تحتضن كمانها وتعزف. صحا على عزفها، أعد فنجان قهوة، وجلس قبالتها.
واصلت هي العزف وكأنه غير موجود.
لمعت في باله انتباهة، وهو يستذكر مشهد الصباح، فاندفعت الدماء في عروقه: تشبه عازفة الكمان إلى حدّ بعيد البنت من شاتيلا، الفرق الوحيد الواضح بينهما أن شعر الحورية منسدل، فيما تعقِد فتاة الكمان شعرها إلى الوراء. هل يعقل أنها هي نفسها؟
معنى «لانغ رييه» الشارع الطويل كما قيل له، علمًا أنّ الشارع غير طويل فعليًا، كان الأجدر أن يسمى الشارع العريض، وليته لم يكن عريضًا، لتكون الشرفة المقابلة أكثر قربًا!
ارتشف شيئًا من الشاي، دخل الشقة وأخرج كرسيًا وضعه إلى جانب كرسيه، في محاكاة لمشهد الكرسيين على الشرفة المقابلة، هكذا دون هدف.
كان ضوء هادئ يتسلل من شباك شقتها.
قرر أن يشرب قهوته صباحًا على الشرفة، متمنيًا أن يتكرر العزف الصباحي.
دخل، وظلت الكراسي الأربعة على الشرفتين فارغة وكأنها دون معنى، وكذا المقعد الإسمنتي المزدوج على البحيرة، وكنبة العجوز الميتة. كان كرسي الخيزران يحمل وحده، دون تذمّر، جثة عجوز موّتها شاب قادم من رام الله.
رام الله
(*) صدرت عن «الأهلية للنشر والتوزيع» ــ عمَّان ـــ 2019.
ش