الهدف هو استعادة فلسطين، بصرف النظر عن كونك فتحاويا أو حمساويا ومن الجهاد الإسلامي أو الجبهة الشعبية، وعلى قدر وضوح هذا الهدف كان الطريق ونهايته بالنصر أو الشهادة، غاية أشرف عيد ظاهر نافع المكنى بـ "ازكيهم" أي (اسقهم الموت) قائد كتائب القسام في مخيم طولكرم والذي استشهد وعمره 18 عاما، ونجا قبلها من أكثر من محاولة اغتيال واعتقال على يد السلطة، وهو ما حدث مع الأسيرين المحررين والقائدين الميدانيين جبريل جبريل (18 عاما) وطارق داوود (18 عاما).
بالتأكيد تسأل نفسك، متى صار هؤلاء الفتية مقاتلين من أجل الحرية وأسرى ثم قادة ميدانيين ختموا حياتهم بالشهادة، صحيح أنه عمرهم قصير لكن الإرث الباقي كبير، ومثلهم استشهد سعيد عزت جابر (23 عاما)، أحد أبرز مؤسسي كتيبة مخيم نور شمس شمالي الضفة الغربية، بعد محاولات اعتقال من السلطة واغتيال من جيش الاحتلال، كما محمد جابر أبو شجاع، وهو قائد كتيبة طولكرم الذي بدأ عمله النضالي وهو ابن 17 عاما واغتاله الاحتلال وعمره 26 عاما، وكذلك أمجد الفايد الملتحق بكتيبة جنين واستشهد في عمر 17 عاما، وضرار الكفريني 16 عاما وغيرهم الكثير ممن ضحوا بمالهم الذي أنفقوه على نضالهم، قبل أن يضحوا بأعمارهم.
كان هؤلاء الشهداء متأكدين من أن خطر ضياع الضفة بأكملها اقترب، رؤيتهم أبعد من المستكينين في انتظار مستوطنين كيعقوب القادم من بروكلين والذي قال لمالكة المنزل المقدسية في مايو/أيار 2021، "إن لم أسرقه سيأتي غيري ويسرقه"، وبالطبع من السلطة التي مات وعدها ببناء الدولة، بينما لا يوجد لديها قدرة على فعل أو حتى خيال بديل تسوقه شعبيا، خاصة أنها فاقدة للمشروعية وطرف أصيل في الانقسام وتغييب الصندوق وسيلةً لتجديد دماء القيادة الشائخة، وكأنّ المقاومين يقولون لأهالي الضفة "إننا نرى الأشجار قادمة"، مثلما حاولت زرقاء اليمامة تنبيه قومها من أن الأعداء يتحركون باتجاههم.
ثمة عوامل عديدة أثرت على تكوينهم، لعل من أبرزها معركة سيف القدس التي وحدت الساحات في 2021، فلم تعد بقاع الوطن مقسمة، بعدما فزعت غزة للقدس والضفة، وكذلك الهروب الناجح لأسرى جلبوع في مشهد لم يصدقه جيش الاحتلال، وبالتأكيد طوفان الأقصى وأثرها الكبير، إذ فتح السابع من أكتوبر سقف الآمال، بأن تحرير فلسطين ممكن وضياعها ليس أمرا محتوما، فالقديم حتما سيحتضر والجديد نشهد ولادته على وقع أصوات الرصاص وانفجار العبوات، من أجل التحرير، وبالتأكيد التضحيات كبيرة لكنها أفضل من حالة دائمة من الألم، ومعسكر اعتقال كبير مصمم لحكم السكان غير المرغوب فيهم عبر تعزيز القيود على أرواحهم قبل أجسادهم من خلال حصارهم بالبوابات والحواجز المحفوفة بالخطر، والفعل القائم في الضفة كما غزة، سيؤدي إلى تطور ديناميكي، فلا أخطر من الجمود في مواجهة التغيرات الهائلة التي يجريها المحتل لنهب ما تبقى من فلسطين و"أخطر ما في الحياة أن تبالغ في الحذر منها" كما يقول ألفرد آدلر عالم النفس النمساوي، فلم يعد مقبولا تحسين ظروف السجن وأحوال السجين، يقول هذا الجيل ذلك بأفعاله، نريد أرضنا المسلوبة وحريتنا وإرادتنا المنهوبة، لا يوجد نظام أمني خال من الثغرات.
صحيح أن ميزان القوة لصالح المحتل ولا مجال للمقارنة، والفتية محاصرون بين جبهتين، الأولى تقف عليها إسرائيل والثانية فيها السلطة، لكن كل ما يحيط بهم يحبهم، أزقة وبيوتا بمن فيها حاليا أو حتى أرواح من عاشوا فيها قبلهم وهم يعرفون أنهم امتداد لدمائهم، والقول ليس مجازا بل فعلا، فجبريل جبريل مثلا سَميّ عمه الأسير المحرر المفقود في حرب غزة الحالية، وكذلك "ازكيهم" وغيرهم، وهي حال من وراثة النضال وانتقال الخبرات بين الأفراد، ويبدو ذلك في عملياتهم النوعية والكمائن المركبة، بل في محاولات تصميم صواريخ تنطلق من الضفة باتجاه دولة الاحتلال ومراكزها السكانية، وإن لم يكتب لها النجاح، واعترف الاحتلال بست منها حتى أغسطس/آب من 2023 وما بدأ صغيرا بالتأكيد لن يظل في محله، والدرس جاء من غزة التي نمت قدرات المقاومة فيها على وقع الحروب المتتالية.
الحاجة كبيرة إلى أسطرة هؤلاء النماذج ونشر قصصهم ليس فلسطينيا فحسب، بل عربيا وعالميا، خاصة في زمن ضياع البوصلة وغياب الهدف عن أقرانهم المرفهين، إنهم فتية آمنوا بربهم وبذلوا أرواحهم فداء لتحرير أرضهم وكرامة أهلهم، مراهقتهم جهاد وشبابهم استشهاد، هم القدوات فاتبعهم، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا.