لم يعد سرًا أن بقاء بنيامين نتنياهو في موقع السلطة في الكيان العبريّ صار مرتبطًا – هذه المرّة على الأقل في تاريخه السياسي المديد في منصب رئيس الوزراء الإسرائيلي – باستمرار حرب الإبادة في غزّة، كجزء أحدث، لا يتجزأ، من برنامج التوسع الدائم لدولة مارقة لا تعترف بأن لها حدودًا من حيث المبدأ، والمتلاحقة فصوله منذ حوالي 150 عامًا، بهدف مرئي نهائي ثلاثي الأبعاد دائمًا: دولة يهوديّة كبرى تبدأ من أطراف النيل، وتنتهي عند آخر مصب الفرات.
على أن خبرتنا التاريخيّة مع هذا المشروع تناشدنا ألا نقع في الفخ السهل لتقبّل فكرة تروج لها نوافذ إعلامية عديدة، غربيّة كما عربيّة، بأن كل هذا التوحش الدّموي – الذي لا يبدو أنه سيقف عند حد توسيع نطاق تمدد المشروع الصهيوني عبر ابتلاع آخر المناطق الفلسطينية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بل ولربما يجد الفرصة مواتية لضم أراض من جنوب لبنان أيضًا، حيث لا يُخفي الصهاينة أنّهم يعتبرون هذه الجهة من الأرض جزءًا لا يتجزأ من حدود دولتهم العابرة للحدود – ليس في المحصلة إلا نتاج تصرفات زعيم يضيق قميص اللغة على وصف توحشه.
نتنياهو في النهاية يدير الكيان باسم ائتلاف حاكم من أحزاب وكتل سياسية تتلفع بألوان اليمين الإسرائيلي – بتعدد تموضعاته على مسطرة التصنيفات السياسيّة – وهذا الائتلاف نتاج ثقة أغلبيّة ملايين من المستعمرين الإسرائيليين الذين يحتلون فلسطين ويحصلون على أسباب البقاء: السلاح والتمويل والحماية من الولايات المتحدة والغرب عامّة. ولذلك، فإن تصرفات هذا الزعيم المأفون، كما يراد لنا أن نقتنع إن هي إلا تجسيد مكثّف لإرادة المجتمع الاستيطاني وداعميه: فهذه هي (إسرائيل) وهذا دورها مزروعة في بلادنا، وهذا هو منهج الغرب وديدنه منذ الحروب الصليبية قبل ما يقرب من ألف عام إلى عصور الاستعمار والهيمنة في القرون الثلاثة الأخيرة.
التمكين للإبادة: إرادة الغرب
لعل بعض المراقبين من أنصار البراغماتية وعشاق النظام الليبرالي الغربي سيجدون في هذه القراءة غرقًا في أوحال التاريخ، وجذريّة قد تجاوزها الزمن، على أن هؤلاء يجب أن ينتبهوا إلى أن المشروع العبراني برمته قائم على أوهام أسطوريّة، وأن هذه الدّولة المارقة التي أنشأت في مرحلة ضعف عربي ترجمة حرفيّة لأشواق الحركة الصهيونية التي هي ابنة الاستعمار الغربيّ الأثيرة، وطفلة نشأت وتربت وتوحشت في حضن الأنجلو – ساكسون: بريطانيا بداية، والولايات المتحدة لاحقًا.
لكّن حتى لو وضعنا التاريخ جانبًا، واعتبرناه ماضيًا قد انقضى، فإنّه من المذهل فعلًا كيف أن الدولة العبريّة تطلق حرب إبادة راح ضحيتها ما يقرب من ربع مليون إنسان، وتشرّد مليونين، وتدّمر منطقة متحضرة بالكامل وعلى الهواء مباشرة، وتستمر فيها لإثني عشر شهرًا دون توقف، ثم لا تجد الولايات المتحدة والغرب داعيًا للتدخل، ولو من خلال وقف شحن الأسلحة والقنابل لساعتين.
دعنا لوهلة نتخيّل سيناريو مماثلًا، لو أن دولة مثل إيران أو فنزويلا أو كوريا قامت بغزو منطقة مجاورة وأطلقت حرب إبادة علنية ضد سكانها لأسبوع واحد لا عام كامل، فأين سيكون الغرب حينها. لقد رأينا جميعًا، رأي العين، كيف انتفض النظام الدّولي، وما زال منتفضًا، في مواجهة روسيا عندما أضطرت الأخيرة للتورط في حرب لمنع تموضع حلف (الناتو) مباشرة على حدودها وتهديد كيانها.
أكثر بكثير من حكاية «رهائن»
مرّة أخرى، قد يجادل البراغماتيين الليبراليين ذاتهم أن «حماس» افتعلت معركة دون مبرر (وكأن الحصار والقتل والتدمير الممنهج منذ 1948 لا يتأهل لمستوى استدعاء مقاومة من السكان الأصليين للبلاد)، وأنها تحتجز (رهائن) من الإسرائيليين، وبالتالي فإن الدولة العبريّة تشن حرب إبادة من أجل تحرير رهائنها فحسب!
مع أن الإسرائيليين أنفسهم لم يعودوا يصدقوا كذبة الرّهائن هذه بعد تضييع الدولة العبرانية لكل فرصة كان يمكن من خلالها تخليص هؤلاء، فإن جريمة القتل الجماعي عبر أجهزة البيجر واللاسلكي التي نفذتها إسرائيل ضد لبنان خلال الأسبوع الماضي تكشف حتى للأعمى عن حجم التواطؤ الغربي في توفير شبكة حماية لسلوكيات مؤسسة تنسب زورًا لنزوات ذات الزعيم المأفون الأرعن.
لا ينتهك النظام الدوليّ إلا أصحابه
لقد استقصدت جهات عدّة في أجواء الحرب العالمية الثانية، نثر كميات كبيرة من أشياء مفخخة يحتمل أن تكون جذابة للمدنيين لغاية التسبب في موت واسع النطاق وعشوائي ينهك الخصم.
وصنّع اليابانيون مثلًا غليون تبغ بشحنة يمكن تفجيرها عن بعد، وأنتج الإيطاليون سماعة رأس تنفجر حال توصيلها، وهكذا. ولكن بعد أكثر من نصف قرن، دخلت معاهدة عالمية حيز النفاذ «تحظر في جميع الظروف، في أوقات الصراع أو خارجها، استخدام الشراك الخداعية أو غيرها من الأجهزة في شكل أشياء محمولة تبدو غير ضارة، لكنّها صنعت عمدًا كي تحتوي مواد متفجرة».
«إسرائيل» الدولة العضو في الأمم المتحدة والموقعة على هذه المعاهدة، نفذّت عمليّة قتل جماعي عبر تفجير متزامن لآلاف أجهزة الاستدعاء (البيجر) التي يستعملها اللبنانيون، بمن فيهم منسوبو حزب الله، الذين يتجنبون استخدام الهواتف الجوالة بسبب سهولة اختراقها.
ثم كررّت ذلك في اليوم التالي عبر تفجير أجهزة الراديو (الووكي توكي) التي يستعملها منسوبو الحزب أيضًا. النتيجة كانت كارثية: عشرات الشهداء، ومنهم أطفال ومدنيون وعاملون في المستشفيات وحتى دبلوماسيين، وآلاف الجرحى الذين فقدوا أبصارهم أو أطرافهم أو جرحوا في الخاصرة حيث يحملون تلك الأجهزة. ولكن كيف تعامل الغرب مع هذا التحدي السافر للنظام الدّولي؟ وهل يمكن تخيّل ردة فعل الولايات المتحدة وحلفائها لو أن روسيا أو كوبا أو سوريا نفذت عملية قتل واسعة مثل تلك في أي وقت؟ إذن لقامت القيامة!
من الجليّ أن أصحاب النظام الدّولي ومؤسسوه هم أنفسهم الذين يتسترون على انتهاك نظامهم، عندما يأتي ذلك الانتهاك حصرًا من جهته المدللة تل أبيب.
إن كل هذا الدّم المسفوك غيلة في فلسطين ولبنان، لم يكن ممكنًا بدون تواطؤ الولايات المتحدة – والغرب عمومًا – المباشر ماليًا وعسكريًا ودبلوماسيًا، ومنحها تلك الحصانة المفتوحة للدولة العبريّة عبر العقود، بغض النظر عن اسم الزعيم المأفون الأرعن، الذي يقودها في هذه المرحلة أو تلك: مائير أو بيغن أو شارون أو أولمرت أو نتنياهو لا فرق. والأجدر بمن لا يرى ذلك جليًا كالصبح أن يسأل طبيبه عاجلًا عن دواء من العمى الاختياري.