كلما ذُكر اسمه، اقترن في الغالب بمجلة "شعر"، ثم بالملحق الثقافي لجريدة النهار. الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا رحل اليوم عن عمر يناهز التسعين عامًا، تاركًا وراءه أنصع الشعر الذي احتفى بالطبيعة والجمال والطفولة والفرح، ومدينته بيروت تحت القصف الإسرائيلي الهمجي. وجاء في نعي اتحاد الكتّاب اللبنانيين: «ها هو اليوم، ينزل من عربته سائقُ الأمس الذي ملأ جرار عمره من ماء الشعر والترجمة والتراث واللغة. شوقي أبي شقرا شاعر الجغرافيا اللبنانية، الإنسان الذي أخذه جمال الجبل اللبناني إلى ما وراء اللغة، شعرًا ونثرًا وتأملاتٍ أغنى فيها الأدب اللبناني منذ ستة عقودٍ من الزمن. رائدًا كان، نتذكّره من الرواد في مجلة شعر، من الرواد في قصيدة النثر، ومن الرواد في الترجمة، ومن الرواد في الصفحات الثقافية في الجرائد اللبنانية، ونعني جريد النهار التي رأس الراحل صفحتها الثقافية، منذ الانطلاقة، ولأكثر من خمسةٍ وثلاثين عامًا. يغادرنا شوقي أبي شقرا إلى عليائه مع رفاقه الشعراء الذين سبقوه إلى ملكوت الحرف الأعلى.»
حياة حافلة
يمثل شوقي أبي شقرا (1935 – 2024) واحدًا من أبرز رموز الحداثة الشعرية في لبنان. وإذا كانت بدايته الشعرية تشكلت ضمن حلقة «الثُريا» مع إدمون رزق وجورج غانم وميشال نعمة حتى نهاية الخمسينيات، وكتب خلالها القصيدة العمودية وشعر التفعيلة اللذين ظهرت نماذجهما في أول مجموعتين له: «أكياس الفقراء» (1959)، و«خطوات الملك» (1960)، إلا أن مشروعه الشعري ارتبط منذ ستينيات القرن العشرين بتكريس جماليات قصيدة النثر في نزوعها السوريالي الذي يقوم على توليد مفارقات الصورة من خلال استثمار اللاوعي وإطلاق طاقاته التخييلية، أو في بعدها الفنتازي المشبع بمناخات الريف اللبناني وموادّه المدهشة، ابتداءً من مجموعته الثالثة «ماء إلى حصان العائلة» (1962)، التي تزامنت مع انتقاله إلى مجلة «شعر» في العام 1959 إلى جانب أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج، حيث عمل فيها سكرتيرًا للتحرير، وحاز ديوانه «حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة» على جائزة المجلة في العام 1962. وكان يوسف الخال وقتها يخاطبه: «سبقتنا يا شوقي وما عدنا قادرين على اللحاق بك، ايها السنجاب الذي يقفز من برج القصائد». وبقبه محمد الماغوط بـ«المرشد الجمالي واللغوي لجماعة شعر». وفي جريدة «النهار» التي عمل على تحرير صفحتها الثقافية، عُرف بانحيازه إلى الجيل الجديد من الشعراء الذين انفتحوا على مغامرة التجريب.
أصدر شوقي أبو شقرا مجموعات شعرية عدّة منها: «سنجاب يقع من البرج» (1971)، و«يتبع الساحر ويكسر السنابل ركضًا» (1979)، و«حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة» (1983)، و«لا تأخذ تاج فتى الهيكل» (1992)، و « ثياب سهرة الواحة والعشبة» (1998)، و«سائق الأمس ينزل من العربة»، و«تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة» (2005)، و«أبجدية الكلمة والصورة» (2005)، و«عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى» (2021). كما ترجم نصوصًا لشعراء الحداثة الفرنسية، من أمثال: رامبو، ولوتريامون، وأبولينير، وريفيردي.
في كتابه السيري: «شوقي أبي شقرا يتذكر… كلمتي راعية وأقحوانة في السهول، ولا تخجل أن تتعرى» (دار نلسن، 2017)، يرصد أهم المحطات الرئيسة التي شهدت طفولته واضطراره إلى العمل في التعليم ومساره الشاق في عالم الأدب والصحافة، أو التي شكلت حركة الشعر العربي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلاقة هذه الحركة بتأسيس الصحافة الثقافية في لبنان، وعلاقته مع شعراء مجلة ّشعر» وخلافه مع أدونيس: «كان خلافنا شعريًا بالمطلق، لكن في الحقيقة ما من سبب جوهري. أدونيس ويوسف الخال، جاء كل منهما إلى المجلة وفي رصيده قصائد كلاسيكية على الوزن والقافية. لم تكن هذه حالتي وصرت أشكل نصوصي بطابع جديد. كانت روح التحدي سائدة بيني وبين أدونيس، هو من طريق وأنا من طريق». وعن تجربته في جريدة «النهار»: «كان عندي نظرة وقدرة على التنظيف والتشذيب والصياغة، فعلت تمامًا كما كنت أفعل في مجلة «شعر» (…) خضنا تجارب ثقافية كثيرة في (النهار)، منها الملحق الثقافي أيضا، قمنا بجهد لا يضاهيه جهد». وعن علاقته بالشعراء الشباب الذين كان ينشر لهم: «هؤلاء اشتغلت على قصائدهم كما كنت أفعل في مجلة (شعر)، وكانوا لا يغضبون، بل يأتون ويشكرونني أحيانًا ولو تحت ستار الحياء، لتنظيفي القصائد وصياغة المحتوى». فالعمل على اللغة والتأنق فيها قبل النشر كان عنده في مرتبة «الشغل على سبحة، على كل ما هو ثمين».