«لمَ يكتب شاعر عن الضاحية، هل يمكن لشاعر أن يقول شيئًا عن مساحات مهدّمة تحتاج إلى طوبوغرافي، إلى فلكي، إلى مخطط مدن، إلى سينمائي، إلى كومبيوتر أكثر منها إلى شاعر. إنه ركام على ركام، وسهول ركامية. هل ننحرف فنتكلم عن جمال هنا، أم أنّ الركام الحقيقي على لساننا. إذ في هذه الغيبوبة المديدة، لم توجد مفردة ولا سحنة ولا هيئة لهذا الذي استحال الآن ركامًا»: كان هذا المقطع جزءًا من نص قديم كتبه الشاعر اللبناني عباس بيضون عن الضاحية الجنوبية لبيروت بعد حرب تموز من العام 2006، حين كان الوحش يكوّم البنايات فوق بعضها البعض، وكانت قدرته على الفتك والتشويه والتدمير أقل بكثير مما هي عليه الآن، بعدما أغدقت عليه التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ومسيرات التجسس والإغارة وتفخيخ الأجهزة اللاسلكية حتى في المتاجر والعيادات والمشافي بكل عدّة البطش القادرة على قتل الإنسان من بصمة وجهه أو صوته في شبه كاريكاتوري بكل ما قام به شذاذ الآفاق من قتل على الهوية على مر التاريخ.
أي شيء يمكن للشاعر أن يقوله أمام الدمار الهائل للضاحية في العام 2024 حين تطلع عليقة النار من المباني المقصوفة في الليل، وتمهّد تلك الشارة الحمراء على الخريطة لمحو أحياء كاملة من الوجود؟ لكن تلك الأحياء والشوارع والزوايا مفعمة بالذاكرة. كانت الضاحية الجنوبية لبيروت تاريخًا للحب والنخوة والمؤانسة على مدار تاريخها القديم والجديد، ولأهلها حياة في الزراعة والتجارة والاقتصاد والعلم: «كان هنا أطفال تتكرر ضحكاتهم في المنازل، كان هناك بخار شاي وبخار حساء ومخادع تصيح بالرغبة وصبايا أجمل من العنقود. إنّ هؤلاء هنا وقد زالوا الآن، فهل يمكن اختراعهم؟ هل هناك آلة للذاكرة تعيدهم صورًا أو أوهامًا أو أفكارًا أو أغاني أو أساطير»، كما يقول بيضون نفسه. ندخل آلة الذاكرة تلك لنضيء بعضًا من تاريخ الضاحية الجنوبية لبيروت، ونعيد لأولئك النازحين من البيوت والأحياء أو المدفونين تحت التراب الخارطة والكلمات وذكريات آبائهم وأجسادهم، لمن عاشوا وماتوا هناك وانتصبوا أشجارًا في برج البراجنة والشياح وحيّ السلم ينزلون الوحش من سمائه الفولاذية كما تنزل «سلمى» ذلك الفارس المعتدي في الحكاية وتصفعه ثأرًا للكرامة
قصة سلمى و«بئر العبد»
خلال حكم الأمير فخر الدين المعني الثاني / 1585-1635م) حاول أحد الجباة وكان شديد السمرة اجتياز روضة المسلمين في ساحة المريجة وكان يمتطي صهوة جواده متوجهًا من جنوب الروضة إلى الجهة الشمالية، فاعترضته إحدى فتيات البرج وتدعى «سلمى». كانت تقيم مع عائلتها على مدخل تلك الروضة وطلبت منه أن يترجّل عن جواده احترامًا وإجلالًا لحرمة الأموات والتقاليد الإسلامية التي تفرض على الفارس أن يترجّل عن جواده. وتقدمت لمنعه من متابعة الطريق، إلّا أن الرجل عاجلها برفسة على بطنها وأوقعها أرضًا، فنهضت لتوّها وأمسكت برجله وشدّته من على الجواد فسقط على الأرض ثم دخلت معه في عراكٍ شديد أدّى إلى ضربها بقساوة، ما جعلها تسرع إلى بيتها المجاور وتحضر سلاحًا عائدًا إلى أحد أشقائها وهو «بندق ابو فتيل». وهذا السلاح معقّد جدًا يتم إشعال البارود فيه بعد ضرب القدّاحة الفولاذية على حجر من الصوّان فوق جرن البارود، فيتم اشتعاله بسرعة داخل الجرن ثم ينتقل الاشتعال إلى موقع آخر يسمى «الخزنة» المحشوة بالبارود المضغوط، فتنطلق العبوة المعروفة «بالحواش» وهي مؤلفة من قطع صغيرة من الصلب باتجاه الهدف. أطلقت «سلمى» طلقًا من هذا السلاح على الرجل وأصابته إصابة بليغة، فتحامل على جراحه وتابع طريقه، وهو ينزف حتى وصل إلى أحد آبار المياه في حارة حريك، (وهو بئر العبد)، حيث فارق الحياة وعرفت البئر بعد الحادث باسم «بئر العبد».
برج البراجنة ومدرسة الفروسيّة (القرن التاسع عشر)
أحَبّ الأمراء الشهابيون ألعاب الفروسية على أنواعها، عملوا على تعميمها وعلى تنشئة أولادهم ليكونوا قادة وفرسانَ في طليعة عساكرهم. ولما كانت برج البراجنة والمنطقة المحيطة بها هي من أملاكهم التي ورثوها عن أنسبائهم الإرسلانيين، وجدوا في أراضي البرج المتاخمة للبحر والجبل مكانًا صالحًا للصيد والقنص والراحة والاستجمام وقيلولة البحر. ولهذا فقد أوجدوا فيها حقلًا للفروسية لعساكرهم ولفتيانهم. هذا الحقل أقيم في ساحة حيّ آل العرب تجاه المنزل الحالي وعائلة العرب التي تولى بعض رجالاتها التدريب على ألعاب الفروسية هي من حاشية الأمراء من آل شهاب حكام البلاد، والعلاقة وثيقة جدًا بينهما. ومن الروايات التي وافق عليها آل العرب في البرج أنهم ينتسبون إلى ذرية الحاج صالح وهو شيخ قبيلة عربية من شمال أفريقيا وقد تكون موريتانيا، جاء يومًا إلى الحجاز لتأدية فريضة الحج ثم عرّج على دمشق لزيارة المقامات الدينية والأماكن التاريخية والأثرية.
كان من الفرسان القلائل الذين يجيدون ركوب الخيل واستعمال السلاح الأبيض، وقد جرى عرض للخيالة في إحدى ضواحي دمشق اشترك فيها الشيخ صالح. وأتى في طليعة المجلين ولفت أنظار الحكام والأمراء ومن بينهم أحد أمراء لبنان من الشهابيين، فرغب الأمير في لقائه والتعرف إليه ثمّ اصطحبه معه إلى إمارة جبل لبنان واقتطع له الأراضي الحالية وهي حيّ آل العرب. وهذا الحيّ بدأ بمجموعة منازل متلاصقة ذات شكل هندسي موحّد حافظت على وضعها قرابة القرنين، وكان حقل الفروسية يقع أمام هذه المجموعة السكنية واستمر على شكله حتى الأربعينات. وأمّا الألعاب التي مارسها الشيخ صالح ودرّب أولاده وأولاد الأمراء عليها، فتشمل ركوب الخيل والوقوف على ظهورها وهي تركض مسرعة، وإلقاءها على الأرض والتمترس بجانبها واستعمال السيوف والرّماح والخناجر، وأصول المبارزة، ورمي الجريد (العيدان الطويلة)، والقفز عبر الحلقات النارية ورفع الأثقال من أجران ومحادل وغيرها. وأصبح هذا الحقل مدرسة رياضية قتالية مع لياقة بدنية جذبت إليها فرسان الأمراء وأبناء الحكّام ورؤساء المقاطعات. وكانت هناك مباريات مختلفة وعلى شتّى ألعاب الفروسية لقاء جوائز مالية كبرى أعدّتها قيادة (فيلق) عساكر الأمير منذ عهد الأمير بشير الثاني واستمرت من بعده حتى عام 1861م، أي حتى بداية عهد المتصرفيّة حيث اقتصرت تمارين الألعاب على أبناء آل العرب الذين سلك بعضهم طريق الجنديّة وبرزوا في عهود عدّة.
الحياة العلمية في الضاحية (مطالع القرن العشرين)
في العام 1938، سعى المربّي حسن جواد فرحات إلى فتح مدرسة رسمية للبنات، فاستجابت وزارة المعارف للطلب بعدما قَدَّم الأهلون الأرض وأقاموا فيها بناء المدرسة على نفقتهم. وبعد مرور بضع سنوات، أصبحت مدرسة تكميليَّة كبيرة تُخرِّج سنويًا العشرات من الفتيات الحاملات للشهادة الابتدائية العالية (البريفيه). وكانت أول فتاة من المحلّة في الساحل الجنوبي، نهلت من مناهل العلم هي فاطمة ابنة عبد الكريم فرحات، رئيس أول مجلس بلدي في برج البراجنة. وكانت، في ما بعد، أوَّل مُعلّمة تفتح مدرسة لمكافحة الأميّة بين الصبايا والنساء في مسقط رأسها أولًا ثم في بيروت في محلة الخندق العميق. وأول فتاة نالت شهادة «البريفيه» اللبنانية والفرنسية هي منتهى كزما (1941)، وأول فتاة نالت الإجازة في الحقوق هي فاطمة حركة (1958)، وأول مدرسة رسمية للصبيان أنشئت في الضاحية الجنوبية هي مدرسة الغبيري (تجاه مدخل مقبرة الشهيدين اليوم)، وكانت مؤلفة من غرفتين. أنشأتها «وزارة المعارف العامّة» سنة 1928 في عهد مديرها صبحي سليمان حيدر، واهتمّ بأمرها ورعايتها المفتش التربوي هنري مشعلاني، أدارها ودرّس فيها، بهمّة ورغبة، الأستاذ أنطون خالدـ المتخرج من دار المعلمين اللبنانية القديمة. ضمّت في عهدها الأول أربعين طالبًا بين سن السابعة والرابعة عشر، وكان الأستاذ أنطون يُقسمهم إلى فئات بحسب مستواهم العقلي والجسدي. وفي بدء السنة الثانية، ارتفع عدد الطلاب فيها إلى سبعين، فاستعان برئيس الجمعية الخيريّة الوجيه علي أحمد الحاج لِتُمِدَّهُ مديرية المعارف العــامــة بِمُعلّم ثانٍ.
الحياة الزراعية والاقتصادية
كانت الضاحية الجنوبية، لِقُربها من العاصمة، تُصرّفُ إنتاجها بسهولة في بيروت وفي بعض المناطق القريبة منها. ومن منتوجاتها وقتئذ: الرمان، الصبّير، البلح، الليمون الحامض، البرتقال والأفندي، المشمش، الجارنك، اللوز الأخضر، الكبوش، الزيتون، العنب، السماق، والخضار على مختلف أنواعها. هذا عدا الحليب الذي كان يورَّد إلى العاصمة صباح كلّ يوم بكميّات لا بأس بها، إذ كانت تربية البقر شائعة في الضاحية الجنوبية، ولا سيّما في منطقة التحويطة والغدير و«حي السيّاد» في البرج: وكذلك تربية الجِمال والدواب والدواجن. والجِمال كانت تستعمل لنقل حجارة البناء الرملية، وخاصةً من منطقة رأس بيروت والجناح ومار الياس.
كما كانت تُستعمل لنقل البضائع والمنتوجات الزراعية والصناعية من بيروت والضاحية إلى عكا وحيفا في فلسطين: وبعض قوافل الجِمال والنوق كانت تتجه بحمولتها شرقًا إلى سهل البقاع ومنه إما إلى دمشق وإما إلى حمص وحماه. وجميع هذه القوافل، التي لا يقل عدد دوابها عن ستّ، كانت تمرّ من برج البراجنة في طريق رملية عريضة ومستقيمة اشتهرت باسم «طريق السكة» أي سكة القوافل. حتى إنّ البئر ذات المياه الغامرة في الساحة التي تتوسطها الجميزة أطلقوا عليها اسم «ساحة عين السكة» (ساحة عبد الناصر اليوم) لأنها كانت محطة لقوافل الجِمال، فيها تستريح وتشرب وتُغسل بسبب وفرة مياه تلك البئر.
في برج البراجنة وجوارها، أُنشِئَت معامل عدّة لتصنيع الحرير وحياكته وأبرزها معامل الحاج يوسف بيضون والد النائب المرحوم رشيد وجدّ النائب محمد. وكانت تقع بجانب روضة «الست» في أول شارع الإمام علي من الناحية الشرقية، وفي برج البراجنة كان عبد الكريم سليمان فرحات (عضو مجلس الإدارة) يمتلك ترخيصًا باستيراد وتصدير دود القز وتوزيعه على المزارعين وترخيصًا آخر بشراء التبغ وتعليبه وبيعه، وكان كلّ من: جرجس الطيار وحسين درويش عمار ومحمود سليم ومحمد الحاج وغيرهم يقومون بتسليف المزارعين الأموال اللازمة حتى نهاية الموسم، وهؤلاء يسلمون المحاصيل إلى الأمير حارس شهاب في محلة بئر العبد حيث كان يمتلك قصرًا يقع شرقي محطة محروقات «دياب» الحاليّة. وهذا المحصول من الشرانق كان يتمّ تسليمه إلى الوكيل العامّ بموجب نظام خاص (امتياز) شبيه بامتياز إدارة حصر التبغ والتنباك، ويتم أيضًا تصدير قسم كبير منه إلى الخارج لقاء عملات أجنبية ذهبية، وكان المزارع في قرى المنطقة يقوم ببرمجة أوضاعه المعيشيّة والاقتصاديّة من موسم إلى آخر، متّخذًا أساسًا لها الدّخل الناتج عن موسم الحرير الواسع.
غزو الجراد لأراضي المنطقة
خلال الثلاثينيات، استيقظ أهالي قرى ساحل المتن الجنوبي على أرتال الجراد حجبت الشمس وغطت الأرض، وتسمرت على أوراق الشجر، واستمرت قابعة في أراضي المنطقة وصولًا حتى شاطئ البحر، حتى بدت المزروعات والأشجار عارية تمامًا من أوراقها وخضرتها، فتنادت السلطات الإدارية، وضمن الإمكانات الهزيلة التي تملكها، وتصدّت لهذه الأرتال وتسلح الأهالي بسعف النخيل وقضبان الغزار الموجودة على التلال الرمليّة المواجهة للبحر وعلى مجرى نهر الغدير. وقاموا بحملة واسعة تحت إشراف البلديات والمختارين ورجال الأمن وتم توزيع محلول الكِلس على هؤلاء الناس الذين شاركوا بحملة المكافحة لرشّ هذا المحلول في المزارع والحقول. ونجحت هذه الحملة بعض الشيء، وعلى الأثر، هبّت عاصفة هوجاء من الرياح الخمسينية الشرقية حملت معها أرتال الجراد لجهة البحر وسقط معظمها في المياه المالحة، ولم تقوَ على النهوض من جديد.
إلّا أن خسارة المزارعين كانت كبيرة إذ قُضي على كامل الموسم. ومن تاريخ حقبة الجوع والجراد وحملته أيام الحرب الأولى، يذكر شيوخ الشياح والحدث وعين الرمانة بالخير الوجيه الحاج حمود كزما، فلقد حمى في بستانه الكبير، القريب من طرف حرج الصنوبر، زهاء أربعين عائلة من آل نعيم ومعوّض ونعمة وكسرواني وزكّور وأشقر وغيرهم، ويقال إنه بنى لهم في ذلك البستان، بين الأشجار، وعلى حسابه الخاص، زهاء خمسين غرفة من خشب، وقد ظلت العائلات مدة أربعة أشهر في حماية هذا الوجيه، مع العلم أنه كان يحيط مجمّعهم ليلًا ببعض الشبّان المسلّحين حرصًا على حياتهم.
الطرق المعبّدة والأنهار
كان عدد الطرق المعبّدة قليلًا جدًا في أواخر العهد العثماني وأوائل عهد الانتداب الفرنسي. وكان في الضاحية الجنوبية منها: طريق صيدا من حُرج بيروت إلى الحدث، فجسر الوروار، فالشويفات فخلدة، ومنها إلى الدامور فمدينة صيدا، وطريق بيروت - حرج الصنوبر - الغبيري حتى ساحة حارة حريك، وطريق الشياح (من مفرق صيدا القديمة) إلى ساحة قرانوح في الغبيري فمنطقة الرمول، وتنتهي عند مقام الإمام الأوزاعي قريبًا من شاطئ البحر. كما يمكن أن نذكر طريق الشياح (عند محلة المشرفية اليوم) - بئر العبد -حارة الدكّاش - محلة الرويس (وكانت قليلة العمران) - مقبرة الرادوف - منزل الحاج يوسف بيضون فساحة المريجة، وطريق تمتد من شرقي ساحة حارة حريك مخترقة البساتين، فتمر في محلّة بئر العبد وتنتهي شرقًا عند طريق صيدا وطريق عاليه القديمة. وكذلك طريق تبدأ شرقي ساحة المريجة، فتخترق البساتين والطرف الشمالي من صحراء الزيتون عند تقاطع سكة الحديد وتتصل أخيرًا عند طريق صيدا ببلدة الحدث، وتُكمل حتى تصل إلى بعبدا.
أما الثروة المائية ما بين أنهار وغدران وينابيع صغيرة، فيمكن إيجازها كما يلي: نبع ساحة عين السكة في برج البراجنة الذي طمرته البلدية بحجة النظافة، وبئر الضيعة في خراج بلدة المريجة و«الضيعة» تعني بلدة البرج القديمة، وبئر البقر شمالي تلة المريجة، المخصص لشرب مواشي أهل البرج القديمة قرب مبنى الكفاءات الحالي، ونبع تلة ديب الخليل غربي نهر القسيس على مدخل المخيم الحالي. وإن اتجهنا شمالًا بئر العبد في منطقة حارة حريك، كانت تشرب منه القوافل التي تسلك طريق البرج - حارة حريك - الشياح – بيروت، ثم نبع حي المصبغة في الشياح خلف معامل غندور القديمة كان يستخدم من قبل أحد المصانع لصباغ الألبسة، ولجهة الغرب بئر حسن في مزرعة بئر حسن كانت تشرب منه القوافل الآتية من طريق سكة صيدا القديمة الساحلية عبر رمول الشاطئ.
كذلك لا يمكن إغفال «المحقان» وهو سد مياه طبيعي يقع بين الشياح والطيونة، كان يستخدم لري المزروعات ويقال إن جنود الجيش الفرنسي الذين رابطوا في المنطقة خلال عامي 1860 و1861 سبحوا في مياه هذا السدّ، ومن قبلهم الجنود المصريون الذين استعانوا بمياه المحقان من أجل ري شجيرات الصنوبر التي غرسوها في منطقة الأحراج.
عهد السيّارات الأولى وقصص عن السائقين
السيارات التي وصلت إلى قرى ساحل المتن الجنوبي، كانت مع دخول الفرنسيين مباشرة بعد عام 1920، وكانت ذات أنواع وأشكال مختلفة، ومنها ما أخذ بعض الشهرة وهو نوع «فورد أبو دعسة» وسمي بذلك لأنه كان من دون «دعسة الفاصل» باستثناء «دعسة» الفرامل، والأنواع التي وصلت منها ما هو أوروبي مثل: فيات، ورينو، وسيتروين، ومنها ما هو أميركي مثل: اسكس، وبويك، شفروليه، أولدزموبيل وغيرها، وكانت تدار محركاتها بواسطة اليد (مانيفال) ومن دون سقف من المعدن، فمنها ما كان سقفها مكشوفًا، ومنها ما هو من أنواع الكتان المقوى بمادة الزفت والمطاط وكانت معروفة «بالكبّوت». ومن طرائف قصص السائقين أنّ السائق عبد الحسن الحركة كان يعمل ما بين البرج وشارع المعرض وبقي لمدة طويلة لا يحسن «التقليع»، فكان يستصعب الوقوف على مفارق الطرقات فيطلب من الراكب أن يتأبط أغراضه ويتهيّأ للقفز من داخل السيارة (وهي من دون أبواب).
كان يقول لهذا الراكب المسكين «بط ونط» أي ادفع الأجرة واقفز من السيارة. وأما السائق محمد علي العنّان، فقد لَقَب «أبو الدعم» وكان ميسورًا، فأبدل عددًا من السيارات الأميركية بعدما عمل فيها تكسيرًا وتحطيمًا بسبب عناده. وفي إحدى المرّات، قفز من فوق الرصيف بجانب كنيسة مار جرجس المارونية ونزل بسيارته على درج الأربعين حتى وصل إلى سوق السمك على جانب «خان البيض »، فهرب الناس من السوق ومنهم من نادى الشرطة، ثم عاد لتوّه على الدرج نفسه واختفى عن الأنظار. كما أن السائق سليم عبد الكريم فرحات بقي لمدة طويلة لا يحسن الرجوع إلى الوراء لوضع سيارته تحت القنطرة أمام دكانه، فكان يدور دورة الرويس، المريجة، عين السكة ويدخل بسيارته من جهة المقدمة، وكان يقول: «أنا بعكس الطليان. بعرف قلّع لقدّام ما بعرف قلّع لوراء». ويُحكى عن السائق محمد قاسم منصور أنه كان يضيق ذرعًا من ربط حوائج وأغراض الركّاب فيسقط بعضها على الطريق ويكتشف صاحبها ذلك بعد وصوله إلى البرج، وإذا عاتبه أحد الركّاب على إهماله كان يقول: «ثاني مرة حط أغراضك بحضنك».
قصّة الطائرة الأولى
في العام 1916، وصل إلى بيروت أحد ضبّاط الطيران التركي النقيب أنور عن طريق سكّة الحديد وقام بزيارة والي بيروت وانتقل شخصيًّا إلى سهل بئر حسن غربي المدينة الرياضيّة الحاليّة وأجرى الكشف على أحد المواقع ووضع فيه بعض الإشارات بواسطة الحجارة الكبيرة التي طلاها بمادة الكلس، ليتمكن من تحديد موقع الحقل الذي يريد الهبوط فيه. وأبلغ السلطات في ولاية بيروت عن موعد حضوره بالطائرة والهبوط فيها في منطقة بئر حسن وذلك على سبيل إبراز القدرات العسكرية والعلمية التي توصلت إليها الدولة العثمانية، فأعلنت السلطات في بيروت عن موعد حضور الطيّار، ودعت الأهالي للتوجّه لاستقباله في أراضي بئر حسن. وتجمع أهالي بيروت وأهالي قرى المنطقة وكانت عيونهم شاخصة نحو السماء، وفي الموعد المحدد ظهرت الطائرة على ارتفاع منخفض آتية من جهة الشمال وأخذت تحوم فوق رؤوس الناس. عندها تعالى الهتاف والتصفيق وأخذوا يلوحون بأياديهم ومناديلهم وطرابيشهم، وعندما هبطت الطائرة وقفز منها الضابط التركي الشاب أنور هتفوا بالعربية والتركية: «الحمد لله على السلامة» واقتربوا من الطائرة ومنهم من قبّل أجزاءها، بينما الآخرون حملوه على الأكتاف ثم نقلوه إلى بيروت ونزل ضيفًا على الوالي.
المراجع:
فهد سليمان فرحات: «برج البراجنة وجاراتها»،
دار القماطي للطباعة والنشر ـــ 1993
- محمد كزما: «الضاحية الجنوبية أيام زمان»،
دار الكتاب اللبناني ــ 1984