أوراق ثقافية

"غزة أمام التأريخ" من النهر إلى البحر

post-img

عن دار Lux اليسارية الكندية في المناطق الناطقة بالفرنسية (هي نفسها ناشرة تشومسكي، وغاليانو، ونعومي كلاين ومفكرين يساريين آخرين)، صدرت دراسة متفرّدة بعنوان «غزة أمام التاريخ» للأكاديمي التقدمي الإيطالي إِنزو ترافيرسو.

في بضع صفحات، يضع الباحث الأمور في نصابها. يُعيد تماسك الخطاب السياسي لأولئك الذين دعموا فلسطين دائمًا وشرعية الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه ضد عقود من الاحتلال والقمع، وحقّ هذا الشعب في المطالبة بقابليَّة العيش على أرض تتنافس عليها باستمرار قوى استعمارية وأقوام دخيلةٌ لمصادرتها منه.

حقيقة قيام المؤلف بالتدريس في الولايات المتحدة (شعبة التاريخ في «جامعة كورنيل»، إضافةً إلى التخصص في الحركات النازية والفاشية) تعطي منظورًا فريدًا لتقديره لقضايا أُقْحِمَتْ زورًا تحت مسمَّى المصطلح الفضفاض وغير الدقيق لمعاداة السامية: في بلد يكون فيه التزام الطلاب والمثقفين اليهود إلى جانب فلسطين هائلًا، فإن استحضار معاداة السامية للتنديد بدعم لفلسطين أمر ضروري، شائك وصعب!

في كتابه الجديد، يسلِّط ترافيرسو الضوء على القواعد الأساسية لدى الطبقات المهيمنة من القوى الغربية، بدءًا من استخدام الأخبار المزيّفة إلى الاستخدام المضلّل لمفهوم معاداة السامية المرتبط بجميع تظاهرات الدعم للشعب الفلسطيني. بتحاليله هذه وضبطه للمصطلحات، يقلب وصمة العار الغربية إلى مفخرةٍ تقدّمية تتبناها أقلية شبابية وأكاديمية، ويشير بوضوح إلى الضحية الحقيقية (الشعب الفلسطيني) والجلاد الفعلي (الكيان الصهيوني) الذي يواصل حرب الضَّم القسري والتدمير الشامل.

يفصل المؤلِّف من دون التباس بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، مستحضرًا بدقة العلاقات والفروق الدقيقة بين العنف والإرهاب والمقاومة، ثم يعود إلى شعار «من النهر إلى البحر»، معيدًا إليه أهميته، كعبارة تختزِلُ برنامجًا ديموقراطيًا لنشأة فلسطين حرَّة متحرّرة لكل أقوامِها ومِلَلِها وفقًا لقِيَمِ المواطَنة، لا كشعارٍ إباديٍّ مثلما تروّج له الصهيونية والإعلام الغربي الذي يلفُّ لفَّها. يعيدُ إلى الشعار معناه وأهميَّته التاريخية، باعتباره تعبيرًا عن الرغبة في عيش النّاس أحرارًا ومتساوين، على أرض مشتركة عبر دولة ثنائية القومية، تماشيًا مع ميثاق «منظمة التحرير الفلسطينية».

يخلص الباحث بذلك إلى أنَّ تدمير غزة لم يكن أبدًا مجرد رد على هجوم السابع من أكتوبر 2023، إنَّما خطوة أخرى في عملية طويلة من السلب والاستئصال. ولعلّ فرادة هذا الكتاب تكمن في الإجابة عن الأسئلة المؤرِّقة بتوضيح الاصطلاحات ورسم جينالوجيا لهذه المفاهيم عبر تحريرها من أيِّ سرد تقليدي واستشراقي يجعل من «إسرائيل» واحةً ديموقراطية في صحراء ظلامية، ومن «حماس» حشدًا من الهمج المتعطشين للدماء.

يقترح الباحث في خاتمة الكتاب، التفكير تاريخيًا في الأزمة الحالية، ورفض تأييد حرب الإبادة الجماعية باسم الحرب ضد معاداة السامية، لأنه إذا انتهى احتلال غزة بنكبة ثانية، فإن شرعية «إسرائيل» سوف تتعرض للخطر بشكل نهائي. ولن يعود بوسع الأسلحة الأميركية، ولا وسائل الإعلام الغربية، ولا ذاكرة المحرقة المشوَّهة والمشوِّهة، أن تنقذها. تبدو خاتمةً نشازًا في الكتاب لأنها تندرج ضمن النسق العام للتفكير الاستعماري الغربي: الحرص الدائم على وجود الكيان الصهيوني، لا على اجتثاث الكولونيالية.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد