مما لا شك فيه أنّ 2024 كان عامًا رائعًا للسينما، بدءًا بعودة معلّمين كبار أمثال فرانسيس فورد كوبولا وبيدرو ألمودوفار، وصولًا إلى الذين لا يزالون يخطّون حروفهم في تاريخ الفنّ السابع. كان هذا عام الساحرات المغنيات (Wicked)، والروبوتات العصامية (The Wild Robot)، وأفلام المغنيين إيمي واينهاوس (Back To Black)، وبوب ديلان (A Complete Unknown)، وشارل أزنافور (Monsieur Aznavour، يُعرض حاليًا في الصالات اللبنانية)، وروبي ويليامز (Better Man)، وسجّل أيضًا عودة أفلام الويسترن مع كيفن كوستنر (Horizon).
بينما أدت المقامرات الطموحة من قبل الأسماء الكبيرة أحيانًا إلى إخفاقات كبيرة كما شاهدنا في «غلادييتر 2»، أُرهق الناس من الأبطال الخارقين، لتختفي أفلام «مارفل» و«دي سي» أكثر فأكثر، وجاءت أفلام مثل Dune 2 وTwisters وFuriosa A Mad Max Saga لتعكس تحركًا تدريجيًا بعيدًا من سينما الأبطال الخارقين باعتبارها الوصفة التجارية الوحيدة.
في «ميغالوبوليس»، ربط كوبولا بين روما القديمة والولايات المتحدة الآن بصفتها أكبر إمبراطورية معاصرة
في سنة التطهير العرقي في غزة، كانت هناك الكثير من القصص الرمزية عن صعود الفاشية وفقدان الحريات في أميركا. بعد «حرب أهلية» (Civil War) الذي بدا كأنه رؤية قاتمة عن المستقبل، جاء «المتدرّب» (The Apprentice) ـــ سيرة الشاب دونالد ترامب ـــ الذي كان بمثابة قصّة ما قبل التاريخ، أو قصة مثالية حول كيفية وصولنا إلى هنا من دون أن ننسى «ميغالوبوليس» (Megalopolis) لكوبولا، الذي استخدم المدن الكبرى كصورة رمزية لسقوط روما حرفيًا. وعاد المخضرم كلينت إيستوود بفيلم شائك هو «عضو المحلّفين رقم 2» (Juror #2) الذي يشبه قصيدة في التحرّر، حيث المواطنون يحلّون محلّ المؤسسات، معلّقًا على نقطة لا يمكن إنكارها عن الواقع، هي أنّ العدالة ببساطة عمياء. وبين كل هذا، حقق شون بيكر، «سعفة ذهبية» عن فيلمه «أنورا» (Anora) الذي قدّم نوعًا آخر من المنبوذين.
برزت السينما الفرنسية مرة أخرى كبطلة، بفضل أفلام مثل «ايميليا بيريز» (Emilia Perez) لجاك أوديار، النهج الأكثر جرأة للأفلام الموسيقية (بالإذن من «جوكر 2» أو فيلم «المادة» لكورالي فارجا، الذي قدم رثاءً تعبيريًا لأجسادنا المريضة. وكانت 2024، السنة التي ظهرت فيها الوحوش بسبب الحروب والتطهير العرقي. لا شيء يفوق بطلة «المادة» في الجزء الأخير من الفيلم، عندما تعود للظهور متحوّلةً إلى مسخ مقزز، لكنها مثيرة للشفقة، كأفضل تعريف للإنسان في عام 2024.
ويبدو أنّ محاولة تلخيص الأشهر الاثني عشر السينمائية الماضية صعبة، إن لم تكن عملية مجنونة. لكن، إليكم أفضل أفلام السنة التي ستلهمكم لمواصلة مطاردة تلك اللحظة عندما تنطفئ الأضواء، وتضيء الشاشة، وتشعرون كأنكم على وشك القفز من مقعدكم.
◄ «الوحشي»: فاشية الأمس... فاشية اليوم
نادرًا ما يفرض عمل فني نفسه على المشاهد، ليتحوّل إلى تحفة فنية منذ عرضه الأول. «الوحشي» (The Brutalist)، الفيلم الثالث للمخرج برادي كوربيت، يبدو خارج الزمن والقاعدة لأنه ينتمي إلى السينما التي تفضّل ارتكاب الأخطاء بدلًا من التغاضي عنها. بنبرة نيتشوية، يتأمّل الفيلم في ويلات كل الأيديولوجيات على الفرد. إنه في الأساس فيلم إنساني، يدافع عن المشترك والاجتماعي والعام. يحكي قصة لازلو توت (أدريان برودي) المهندس المعماري الذي فرّ من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأميركية، من الهولوكوست إلى الرأسمالية. «الوحشي» يُعاش بأكمله على الشاشة في حالة متناقضة من النشوة الحذرة، مثل الحلم قبل الاستيقاظ، بين التمثيل والواقع، بين ما يُروى وما هو موجود، بين الحقيقة والزيف. يدعونا الشريط إلى رحلة عبر الماضي البعيد بمعناه الجذري، يناشد حاضرًا ملحًا. فاشية الأمس هي فاشية اليوم، والرأسمالية في ذلك الوقت تلتهم بقدر كبير من الحماس مثل فاشية اليوم. الذاكرة مهمة، سواء كانت تاريخية أو بصرية. ولحظة الوضوح التي تستمر لأكثر من ثلاث ساعات، هي عمل شخصي جدًا ومهم لأنه قصة الجميع.
◄ «جولة كبرى» بين الشرق والغرب
أفلام البرتغالي ميغيل غوميز ليست سهلة أبدًا، إلى درجة نسأل أنفسنا مرارًا إلى أين يأخذنا. وفيلمه الجديد «جولة كبرى» (Grand Tour) ليس استثناء. وفقًا للعنوان، الفيلم هو رحلة تبلغ مدتها ساعتين، تمزج بين التجريب السمعي والبصري الجريء بأناقته التعبيرية، حتى النهاية التي تبدو أنها تُحيي السينما نفسها. «جولة كبرى» قصة واحدة، وثلاث وجهات نظر مختلفة، بينما يستمر الفيلم في خلط اللغات والروائح والألوان بالأبيض والأسود. فيلم متطلب وراديكالي، هو سينما المؤلف بالمعنى الأكثر تطرفًا للكلمة. هو بحث، وهروب، ومطاردة وسحر سينمائي عبر البحث عن العالم الحقيقي. الفيلم لغز من حيث المبدأ. قصة تحكي نفسها في ثلاثة أو أربعة أسطر متوازية، ونادرًا ما تتقاطع. قصة رجل يهرب من خطيبته من ميانمار إلى سنغافورة وتايلاند وفيتنام والفليبين واليابان وباكستان، من الماضي الاستعماري إلى الحاضر، لتسليط الضوء على التناقض بين الغرب والشرق.
◄ «ميغالوبوليس»: أميركا أميركا
وجود فيلم للكبير فرانسيس فورد كوبولا هذه السنة، هو بحد ذاته شيء عظيم. في «ميغالوبوليس» (Megalopolis)، كان كوبولا قادرًا على تقديم فيلم تجريبي، متغطرس متطرف ووقح وعبقري وحرّ. هذه رؤية كوبولا الخاصة والخالصة، هذه هي الملامح الساكنة في أفكاره الأكثر وجودية المتولدة من تجاربه الشخصية ومن عملية اصطدام وتلاقح التاريخ والدين والسياسة والفلسفة والحضارات. في ربط روما القديمة بالولايات المتحدة الأميركية الآن بصفتها أكبر إمبراطورية إمبريالية على الكوكب، يبدأ الفيلم بالتدفق عبر لقطات تتأرجح بين الخطابة والرمزية والمباشرة. ضجيج وابتذال وقبح وجمال وعظمة فنّ لا نهاية له. ما عليك سوى الاستسلام، وترك عبقري سينمائي يجمع كل شيء في مكانه بشكل مثير للإعجاب.
◄ «عضو المحلّفين رقم 2»: انتصار ايستوود بلا منازع
مخضرم عظيم آخر كانت له حصة هذه السنة. لكن مثل كوبولا تعاقبه شركات الإنتاج الكبيرة وتحدّ من عرض أفلامه على الشاشات الكبيرة. «عضو المحلفين رقم 2» (Juror#2) يجعل مشاعرنا متوترة في كل لقطة وكل مشهد. الجريمة والعقاب مفهوم عمل عليه عدد من صنّاع الأفلام، إلا أنه عادةً ما تُنتج أعمال أقل تعقيدًا من هذه الفكرة. يختار كلينت إيستوود بكلاسيكيته التي لا تقبل الجدل، تصوير قصة أكثر تعقيدًا، حيث العقوبة والجريمة، ودور العدالة فيها. في «عضو المحلفين رقم 2»، سجل إيستوود كل الأهداف اللازمة لتحقيق انتصار سينمائي آخر بشكل مريح جدًا.
في «عضو المحلفين رقم 2»، سجل إيستوود كل الأهداف اللازمة لتحقيق انتصار سينمائي آخر بشكل مريح جدًا
◄ «ما زلت» في البرازيل
يستند فيلم «ما زلت هنا» (I’m Still Here) إلى القصة الحقيقية لعائلة بايفا، حيث يقدم والتر ساليس، الدراما السياسية الشخصية بشكل بليغ. في ريو دي جانيرو في سبعينيات القرن الماضي، أصبح روبنز بايفا، النائب الليبرالي السابق والناشط المعارض للديكتاتورية العسكرية في البلاد، واحدًا من عدد من الأشخاص الذين اختفوا عندما اقتادتهم الشرطة العسكرية إلى التحقيق. على مدار السنوات والعقود التالية، عاشت زوجته يونيس وأطفالها الخمسة مع عواقب هذا الاختفاء. تقدم الممثلة فرناندا توريس أداءً يتميز بقوة ملحوظة، حيث تصوّر إرادة يونيس الحديدية وهي تكافح لتوفير احتياجات أسرتها وكشف مصير زوجها. يجعلنا ساليس نشعر بالتوتر والخوف من الاختطاف إلى الأيام التي تلته، بينما يخلق بطريقة فريدة التأثيرات الطويلة الأمد لمثل هذه المآسي.
◄ «كلب أسود»: الريف قبل مجيء البرابرة
في «كلب أسود» (Black Dog)، يقدم المخرج الصيني جوان هو قصة شعرية حزينة عن تحديث المدن الريفية في الصين. الفيلم في جوهره، حكاية فداء لرجل يجد نفسه على هامش المجتمع، وكلب يجد نفسه خائفًا، ويتبادلان الأدوار بينهما. يستكشف الفيلم موضوعات العزلة والوحدة والعلاقة بين الحيوانات والبشر والتحولات الكبرى والتغيير. «كلب أسود» قصة صداقة صامتة عاطفية، ورحلة عزلة وفداء. فيلم خشن في مظهره الخارجي، لكنه يحمل الكثير من المشاعر المكبوتة.
◄ «المادة»: فيلم «غير لائق»!
«المادة» (The Substance) لكورالي فارجا ذو فكرة بسيطة وصلت إلى حدّ التطرف. نسوي لمن أراد تسميته ذلك، صريح ومباشر، متنكّر في هيئة مواجهة وحشية بين امرأتين، أو لنكن أكثر دقة، حرب امرأة مع نفسها. كل شيء في الفيلم وحشي وغير لائق وقبيح ومقرف ويتضمن أيضًا أشياء لا يمكن وصفها بالكلمات. فيلم قوي متطرف، ممتع، فريد فيه كل الجنون والقذارة والقيء والدماء والأحشاء، فيلم رعب جسدي بكل ما يحمله هذا الوصف من معنى.
◄ «أنورا»: مرافعة عن العاملين في الجنس
يعد «أنورا» (Anora) الفيلم الخامس للمخرج الأميركي شون بيكر عن العاملين في مجال الجنس، لكنه جديد وفريد من نوعه. في عصر يميل إلى التطرّف والتحيز والرقابة الذاتية، غالبًا ما يتعامل بيكر بشكل مباشر وفجّ مع مواضيع شائكة مثل الأبعاد المختلفة لصناعة الجنس والعاملين فيه، ودائمًا بكل رقة واتساع رؤية ورغبة في الفهم. مع «أنورا»، بنى فيلمًا سينمائيًا قويًا، هاربًا من «الأخلاق» في قصة تعالج عدم المساواة والاختلافات الطبقية وأكاذيب الرأسمالية. يستعيد «أنورا» الروح العدوانية المتمرّدة التي سادت سينما السبعينيات ويضيف إليها خفةً نموذجيةً. لكن ما لا يمكن إنكاره هو أننا نواجه في الفيلم مثالًا نموذجيًا لكيفية صناعة كوميديا، ذات مصداقية بعيدة عن أي نوع من التقليد أو الابتذال. في الفيلم، هناك الكثير من الجنس والفكاهة ومشاهد مضحكة ونقد مدمر للاختلافات الاجتماعية الكبيرة في جميع أنحاء العالم، ونداء لمصلحة حرية العاملين في مجال الجنس. «أنورا» شريط كوميدي عن الحلم الأميركي وحدوده، وعن الأنماط الأخرى للصراع الطبقي، وهو رومانسي بلا رومانسية. أثناء المشاهدة، نفقد عقولنا من كمية الكحول والمخدرات، ونُصاب بألم في حنكنا من شدة الضحك.
◄ «فتيان نيكل»: مقامرة رابحة
كان من المحتّم تحويل رواية كولسون وايتهيد «فتيان نيكل» (The Nickel Boys) عن مراهقين أسودين يصبحان صديقين أثناء وجودهما في إصلاحية لأحداث في فلوريدا إلى فيلم سينمائي. لكن اللافت أنّ المخرج الأميركي راميل روس قوّض الكليشيهات المعتادة للدراما من هذا النوع، وقدم فيلمًا من منظور الشخص الأول، محققًا مفاجأة سينمائية عظيمة. فيلم «فتيان نيكل» يستند إلى الرواية التي تحكي قصة حقيقية حدثت على مدى أعوام طويلة في إصلاحية فلوريدا التي اكتسبت سمعة سيئة بسبب الإساءة والضرب والاغتصاب والتعذيب وحتى قتل الطلاب. الفيلم مقامرة جميلة رابحة، يجبرنا على إعادة تقييم الأفلام التي تستهلك المأساة باعتبارها «ترفيهًا».
«ما بعد...» لمها حاج، يقدم العلاقة بين الواقع والحاضر والماضي والمستقبل كما لم يعرضها أي فيلم عربي من قبل
◄ الحياة والموت في «الغرفة المجاورة»
عبر مواجهة الموت، ينشغل المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار بالحياة في «الغرفة المجاورة» (The Room Next Door)، أول فيلم روائي طويل له ناطق باللغة الإنكليزية. ينشغل الفيلم بشغف واقتناع، بفكرة القتل الرحيم، الموصوف في الفيلم بـ«النهاية الكريمة». في فيلمه الاجتماعي السياسي، يصرخ ألمودوفار ليقول إنّ مسألة الاختيار الشخصي للموت حقّ غير قابل للتصرف. «الغرفة المجاورة»، يبقينا بجوار الموت، بمجرّد جلوسنا على مقاعدنا عبر نصّ يعتمد كليًا على الكلمات، هو لحن المحادثات بين الصديقتين اللتين ترويان القصة لنا. «الغرفة المجاورة» أكثر من مجرد فيلم عن الموت، هو باب مفتوح، لم يغلق عندما أتى الموت، ويتخذ موقفًا من العالم عبر قصة مبنية على العواطف. ألمودوفار هنا جلب النظام إلى الفوضى، وأعاد ربط الخيوط المقطوعة، وحقق السلام مع الموت والماضي والأمل بالمستقبل.
◄ «ما بعد...» المجزرة
في «المستقبل... في مكان ما»، يعيش الزوجان سليمان (محمد بكري) ولبنى (عرين عمري)، في مزرعة منعزلة. حياتهما روتينية يدحضها ألم وحزن ظاهران على وجهيهما وفي سواد ثيابهما. لديهما روتينهما، يعملان في المزرعة والبيت. وكل يوم خلال تناول الوجبات أو خلال جلسة الشاي، يتحدثان عن أطفالهما الخمسة البعيدين عنهم. في «ما بعد...» الفيلم القصير الجديد للمخرجة الفلسطينية مها حاج، تكاد وجوه الشخصيتين تبتلعها الظلام. وهناك شيء آخر كامن في هذا الظلام: الإبادة الجماعية في غزة. عبر وضع القصة في المستقبل، يركز الفيلم على الخسارة الناجمة عن الحرب، بطريقة غير مباشرة. «ما بعد...»، متفرد، ذكي وبارع، يعصر القلب، ويقدم العلاقة بين الخيال والواقع والحاضر والماضي والمستقبل كما لم يعرضها أي فيلم عربي قبل ذلك.
* Monsieur Aznavour في الصالات اللبنانية