اوراق مختارة

وزارة التعليم في سوريا «تجتثّ» البعث... و"الآلهة" !

post-img

بدأت مفاعيل تغيُّر نظام الحُكم في سوريا تظهر في المجالات غير المرتبطة بشكل مباشرٍ بالسياسة والعسكر، من دون أن ينفي عدم ارتباطها هذا أهميَّتها الكبرى في الحياة اليومية لجميع المواطنين، وتجدَّدت معها المخاوف من أسلمة الدولة ومؤسساتها.

بعد نحو ثلاثة أسابيع فقط على وصول «هيئة تحرير الشام» (جبهة «النصرة» سابقًا) إلى السلطة، وتشكيلها حكومةً انتقاليّةً ضمَّت عددًا قليلًا من الوزارات الضرورية لتسيير حياة المواطنين وتنظيمها، بدأت هذه الوزارات بإصدار قراراتٍ تتناسب مع التغيّر السياسي الذي حصل في البلاد، ومع الخلفية الأيديولوجيَّة للجهة التي أحدثت هذا التغيُّر وعيَّنت هذه الحكومة، ومنها وزارة التربية والتعليم. إذ أحدثت هذه التعديلات اعتراضات كبيرة في الشارع السوري وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، ذكَّرت بالاعتراضات على التصريحات التي تناولت دور المرأة في الحياة العامَّة وحطَّت من مقدراتها، وكان قد أطلقها قبل أيَّام كلٌّ من المتحدِّث باسم الإدراة السياسيَّة عُبيدة الأرناؤوط، والمسؤولة عن مكتب شؤون المرأة عائشة الدبس.

نظرًا إلى التغلغل الذي فرض حزب «البعث» الحاكم نفسه عبره على مختلف مناحي الحياة السورية خلال أكثر من نصف قرن كان فيها «القائد للدولة والمجتمع»، و«الحزب الحاكم المؤلَّف من طليعةٍ ثوريَّةٍ تتولَّى قيادة الجماهير نحو تحقيق تطلُّعاتها...» وفقًا لمبادئه ومنطلقاتها النظريَّة التي لقَّنها لطلاب المدارس الذين سيُصبحون أوتوماتيكيَّا أعضاء في منظَّماته المختلفة بحسب أعمارهم، كان لا بُدَّ لأيِّ نظام جديد من أن يصل إلى الحُكم من أن يتعامل مع النظام التعليمي بوصفه إرثًا بعثيَّا يجب تغييره، خصوصًا مادَّة «التربية القومية الاشتراكية»، أو «التربية الوطنية» كما أصبح اسمها في السنوات الأخيرة.

كانت مهمة هذه المادة غرس منطلقات حزب «البعث»، ومنها المبادئ الحجريَّة المذكورة أعلاه، في رؤوس التلاميذ وإثقالها بأفكار لا علاقة لها بالواقع. ألغت وزارة التربية والتعليم هذه المادة في التعديلات التي أعلنت عنها أول من أمس الأربعاء، وشملت صفوف التعليم المدرسي الـ 12 «نظرًا إلى ما تحتويه من معلومات مغلوطة تهدف إلى تعزيز الدعاية لنظام الأسد المخلوع وترسيخ قواعد حزبه» وفقًا لما قاله الوزير نذير القادري.

وإن كان قرار إلغاء المادة لازمًا ومريحًا للطلاب، فإنَّ قرار تعويض درجاتها المحذوفة من المجموع العام لطلاب الشهادة الثانوية بدرجات مادة «التربية الدينية» (كلاهما درجته التامة 20)، التي لم تكن تدخل في المجموع العام في السابق، أعطى للدين أهميةً أكبر في التعليم. كما أنَّه أثار اعتراضات كثيرة من معلِّقين على وسائل التواصل الاجتماعي لعدم تساوي الطلاب في هذه المادة، فمادة التربية المسيحية أسهل من التربية الإسلامية. أما الاعتراضات الأكبر، فهي على التعديلات المُدخلة على كتاب التربية الدينية الإسلامية، التي لا يمكن وصفها إلَّا بأنَّها تصنع شرخًا في المجتمع السوري، وتؤسس لأحادية دينية واستعلاء يجعل أتباع بقية الأديان (أو الشرائع السماوية بحسب التعديلات، فلا دين عند الله إلا الإسلام!) رعايا في كنف الحاكم المُحسن إليهم لمُجرَّد إبقائهم أحياء فوق أرضهم من دون دفع جزية، حتى الآن على الأقلّ. التعديلات أكثر من أن تكفي مقالةٌ واحدة للإشارة إليها جميعًا وإلى تداعياتها على مختلف الشرائح الدينية وغير الدينية في المجتمع السوري.

لكن أوَّل ما يلفت النظر هو التفسير الجديد لآية سورة الفاتحة المتعلِّقة بعبارة «غير المغضوب عليهم ولا الضالين». التفسير القديم كان يُشير إلى هؤلاء بأنَّهم «من ابتعدوا عن طريق الحق»، ليصبحوا في التفسير الجديد «اليهود والنصارى»! أما الصراط المستقيم نفسه، فهو «طريق الإسلام»، بعدما كان «طريق الخير» الذي يمكن أن يسير عليه الجميع، حتى من لا دين لهم. أما الشهداء، فهم من «ضحُّوا في سبيل الله»، لا من «ضحُّوا للحفاظ على تراب الوطن». وطبيعيٌّ على ضوء التفسير الجديد أنَّ المسيحيَّ لا يمكن أن يكون شهيدًا، لأنَّه ضالٌّ يعبد إلهًا آخر.

لا يقتصر الشرخ الذي تؤسِّس له الهيئة الحاكمة على الداخل، بل تطمح إلى مدِّه عبر العالم. لا «أخوَّة إنسانيَّة» بحسب وزارة التربية، بل فقط «أخوَّة إيمانيَّة»، وهي الأخوَّة نفسها التي تجعل الاحتلال العثماني فتحًا، وتُبرِّئه من دم شهداء الصحافة «الضالِّين» الذين لم يعد في إمكان الطلاب تسميتهم شهداء لأنَّهم ماتوا في سبيل وطنهم فقط، وفي محاولة تنوير شعبهم وتحريره بعد أربعة قرون من التجهيل والتخلُّف العثمانيين، اللذين أعدمهم «الأخ المجاهد» جمال باشا السفاح في بيروت ودمشق في 6 أيار (مايو) 1918، وهو اليوم الذي كان عيدًا وطنيَّا ألغته الهيئة التي لم تكن لتصل إلى الحُكم لولا الدعم التركي. أما «حرب تشرين التحريرية»، فقد أصبح اسمها «حرب العام 1973»، وطُلِب حذف كل ما يتعلَّق بـ«نصر تشرين» من الكتب المدرسيَّة، كأن استرجاع أرضٍ كانت محتلةً كالقنيطرة هو نصر لمن قاد الحرب، لا لأهل تلك الأرض الذين يجدون اليوم أنفسهم تحت الاحتلال الإسرائيلي من جديد، من دون وجود سلطةٍ سياسيةٍ ترفع صوتهم وتحكي عمَّا يعانونه.

أمَّا التعديلات المفروضة في مادة التاريخ، فترقى إلى رتبة التزوير، وتهدف، من حيث يدري القائمون عليها أو لا يدرون، إلى إنشاء جيلٍ قليل الاطلاع وضعيف الثقافة؛ فأن تُعلِّم شيئًا في المدارس لا يعني أن تكون مقتنعًا به ومعتنقًا إياه، بل أن تعرضه ضمن التطور الذي طرأ على الفكر الإنساني عبر العصور. فالأم مثلًا كانت «معبودةً» عند بعض الحضارات القديمة، لكن المطلوب حذف هذه الكلمة، وكذلك حذف عبارة «عبادة الربَّة الأم»، كأنَّه لم يكن هناك تاريخ ومعتقدات وإيمان قبل الأديان الإبراهيمية، حتى لو كان ذلك الإيمان «ضلالًا» هو الآخر.

تطلب التعديلات حذف صور الآلهة التي عبدتها الحضارات القديمة والشرح المتعلق بها، بما فيها شريعة حمورابي، التي كان يُعتقد حتى وقت قريب أنها أقدم شريعة مكتوبة في تاريخ البشر، قبل اكتشاف قانونٍ سومري أقدم. لكن لن يتاح للطلاب السوريين معرفة شيءٍ عنه رغم قربهم من الأرض التي اكتُشِف فيها، في الوقت الذي تُدرَّس فيه هذه الشرائع ويُحتفى بها في مختلف أنحاء العالم. كما تطلب حذف صور التماثيل الواردة في كتب اللغة الإنكليزية. شملت التعديلات أيضًا مواد علميَّة، والمقصود هنا العلوم الطبيعيَّة بالطبع، وتحديدًا كلُّ ما يتعلَّق بنظرية التطور والنمو لداروين بالتأكيد. كما أنَّ هناك تدخُّلًا في المعاني الأدبية لبعض القصائد الشعريَّة بجمودٍ في التفسير الدينيّ، الذي لا بدَّ من أن يكون له دوره الرقابيُّ في المستقبل القريب، على صعيد النشر داخل سوريا، والحياة الثقافية والأدبية، وكذلك في الدراما التلفزيونيَّة.

يُفيد سلوك «هيئة تحرير الشام» في الحكم، على قصر مدَّته، في تفسير سبب صمت من سكتوا عن ممارسات النظام السابق رغم سوئها، لخوفهم من أن يكون البديل أكثر سوءًا. كأنَّ سوريا محكومٌ عليها أبدًا بأن تكون ضحيةَ أحاديَّةٍ لا تتغيَّر سوى هويتها. لا تتعلَّق الهوية الدينية التي تجلَّت في التعديلات السابقة الذكر بتفسيرٍ خطأ تمَّت إزاحته وتعويضه بتفسيرٍ صحيح، بقدر ما تتعلَّق بمدارس فقهيَّة وخطابٍ ديني متشدِّد يسعى إلى فرض نفسه على الناس، عبر التغلغل في مختلف مناحي الحياة، كما كان الحال تمامًا مع خطاب البعث البائد.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد