علي عواد/ جريدة الأخبار
تفوّق الذكاء الاصطناعي (AI) الصيني على «تشات جي بي تي» الأميركي بكلفة 6 ملايين دولار فقط، مُستخدماً رقاقاتٍ إلكترونية مُقيّدة بالعقوبات. إنجاز غير مسبوق، أجبر واشنطن على مراجعة حساباتها في سباقٍ لم تعد تهيمن فيه وحدها
إنه أمر لا يصدق فعلاً! كي نفهم حجم الحدث بأسره، نحن في حاجة إلى سرد بعض المفاهيم الأساسية وشرحها حول كيفية عمل أنظمة الذكاء الاصطناعي. لكن لا تقلقوا، نعدكم أن تكون المعلومات سهلة ومثيرة.
أنظمة الذكاء الاصطناعي مثل «تشات جي بي تي» ليست سحراً، إنما مجموعة من سطور برمجة تشكّل مع بعضها ما يشبه نظام تشغيل الهواتف والحواسيب وحتى التطبيقات والبرامج. أنظمة دُرّبت داخل مختبرات على تحليل كميات هائلة من البيانات، تُحاكي طريقة تفكير البشر عبر خوارزميات معقدة. ويمكن لنا أن نتخيّل أننا نعلّم طفلاً القراءة عبر منحه آلاف الكتب، ثم نطلب منه كتابة جملة أو موضوع بمفرده.
هذا بالضبط ما تفعله الشركات عندما تُدرّب الـ AI على النصوص. لكن الفارق الجوهري يكمن في ثلاثة أمور: أولاً، جودة البيانات: كلما زادت تنوعاً ودقةً، زاد «ذكاء» النموذج. ثانياً، الخوارزميات: وهي الخطوات التي يتعيّن على البرنامج المرور بها من أجل تحقيق ما يطلبه المستخدم. وكلما كانت تلك الخطوات مكتوبة من قبل المبرمجين بعناية أكبر، كانت إجابة الـ AI أفضل. وثالثاً، القوة الحاسوبية: تحتاج الشركة المطوِّرة للذكاء الاصطناعي إلى امتلاك بنية تحتية ضخمة من الشرائح الإلكترونية المتخصصة (مثل تلك التي تُنتجها شركة «أنفيديا» NVIDIA الأميركية)، القادرة على تنفيذ عمليات الذكاء الاصطناعي بسرعات فائقة. وهنا يظهر سِرّ DeepSeek. بينما تعتمد الشركات الأميركية على قوة حاسوبية هائلة (مثل رقاقات H100 من «أنفيديا» بأسعارٍ خيالية)، طوّر الصينيون خوارزمياتٍ مُحسَّنة رياضيّاً تستهلك طاقةً أقلّ، وتُحقق نتائجَ مُماثلةً أو أفضل من دون استخدام الشرائح الأميركية الأحدث التي تفرض الولايات المتحدة قيوداً تمنع الصين من الوصول إليها. أي عملياً، أعادت الصين اختراع العجلة وأخذتها إلى مستوى آخر لم يفكر به خصومها الغربيون.
الأدهى من ذلك أنّ النموذج الصيني تفوّق في اختبارات الأداء الدولية على منافسيه الأميركيين في مجالات مثل الرياضيات المعقدة، والبرمجة، وحلّ المشكلات. كما أنّ الإصدار الأحدث من DeepSeek المسمّى R1 (سنتحدث عنه أكثر لاحقاً)، تفوّق على أحدث نموذج لشركة «أوبن إيه آي» مالكة «تشات جي بي تي» الذي يسمى (o1) وفقاً لاختبارات مستقلة. ودفع هذا الإنجاز رئيس مايكروسوفت، ساتيا ناديلا، إلى التحذير في منتدى «دافوس» الأخير قائلاً: «علينا أن نأخذ التطورات الصينية على محمل الجدّ… إنهم يبنون نماذج فائقة الكفاءة بكلفةٍ منخفضة».
ميزات DeepSeek
لا يقتصر تميُّز النظام على مجرد كونه «مجانيّاً» مثل باقي المنصات التي تَستدرج المستخدمين بعروضٍ موقتة. بينما يُجبر «تشات جي بي تي» المستخدمين على الترقية إلى نسخة مدفوعة (20 دولاراً شهريّاً) بمجرد تجاوز عدد محدد من الطلبات، أو يَدفعهم إلى استخدام نسخة «غبية» (مثل GPT-3.5) لإكمال العمل، يظل DeepSeek مجانياً بالكامل طوال الوقت، وبالمستوى الذكائي المُتفوِّق نفسه، من دون حدودٍ للاستخدام اليومي أو الشهري. كذلك، يتيح النظام واجهة برمجة التطبيقات (API) للمطوّرين في مقابل رسوم اشتراك بخسة، ما يسمح لهم بدمج روبوت الدردشة هذا في تطبيقاتهم أو مواقعهم الإلكترونية بسهولة وفعالية.
يقدم DeepSeek أداءً فائق السرعة مع حفاظه على دقةٍ عالية في معالجة المهمات المعقدة مثل البرمجة والرياضيات. إضافةً إلى ذلك، النظام مفتوح المصدر؛ ما يمنح المستخدمين حرية تنزيله كاملاً، وتعديله، أو حتى إعادة تسميته من دون أي تكاليف، على عكس النماذج المغلقة التي تُسيطر عليها الشركات الأميركية. ويُعدّ الجانب الأكثر لفتاً للانتباه كفاءته العالية مقابل الكلفة المنخفضة: بينما تحتاج النماذج الغربية إلى ملايين الدولارات للتدريب والتشغيل، يُحقق DeepSeek نتائج ممتازة بكلفةٍ أقلّ بكثير. وللتأكيد على ذلك، بلغت كلفة تدريب أحدث إصدار منه 5.5 ملايين دولار فقط، مقارنةً بـ 100 مليون دولار لكلفة تدريب أحدث نسخة من «تشات جي بي تي» (المُسمى 4o).
إضافة إلى ذلك، عند الضغط على زر R1 في DeepSeek، يتحوَّل النموذج إلى وضع التحليل الذكي الفائق، فيقدّم إجابات مُحسَّنة ومُعزَّزة تُلخّص النتائج بأسلوبٍ واضح وسريع، ولو أنه في هذه الحالة يأخذ بعض الوقت لتقديم الإجابة (يمكن مشاهدة النظام يتكلم مع نفسه ويحاول فهم ما هو مطلوب منه). تعتمد هذه الخاصية على خوارزميات متقدمة لمعالجة الاستفسارات، وتقديم معلومات مركّزة ذات صلة مباشرة باحتياجات المستخدم، مع تجنُّب الحشو أو التفاصيل غير الضرورية. هذه الخاصية بالتحديد هي التي أثارت روّاد منصات التواصل في الحديث عنها.
ماذا يعني ذلك لأميركا؟
في الواقع، يُعدّ هذا الإنجاز ضربةً إستراتيجيةً متعددة الجوانب، فقد نجحت الصين في تحدّي معايير الهيمنة التقنية على أكثر من صعيد. أولاً، استطاعت واشنطن ترسيخ صورتها كرائدة للذكاء الاصطناعي عبر الترويج لنموذج «تشات جي بي تي» من شركة «أوبن إيه آي»، وهو نموذج مغلق المصدر وسطور برمجيته مشفرة، ما يمنع معرفة آلية عمله أو تعديله. في المقابل، تقدّم الصين نموذج DeepSeek بشكل مفتوح المصدر، تُعلن فيه بفخر: «هذا هو إبداعنا الرقمي، متاحٌ للعالم لدراسة كود برمجته والاطلاع على تفاصيله». كيف يُمكن إثبات تفوّق نموذج مغلق مثل «تشات جي بي تي» من دون وجود شفافية تسمح بالفحص والمقارنة؟
الأمر يفتقر إلى أدلةٍ ملموسة. ثانياً: يعتمد النموذج الأميركي على استثماراتٍ ضخمةٍ تصل إلى ملايين الدولارات، فهو مُصمّم بطريقةٍ تُجبر الراغبين في دخول مجال الذكاء الاصطناعي، على دخول حلقة تستنزف أموالهم. إذ إنّ شركة «أنفيديا» حقَّقَتْ أرباحاً هائلةً جرّاء إنتاجها الشرائح المُخصَّصة لهذه الأنظمة، نتيجةً لِـ «حمى الذهب التكنولوجية» التي جعلت كلَّ مُنافسٍ في ساحة الذكاء الاصطناعي مُضطراً إلى شراء هذه المُكوّنات بأسعارٍ باهظة. لكن الصين تمكّنت من كسر هذه الحلقة عبر تبنّي إستراتيجياتٍ تقلّص التبعية لهذه السلسلة المالية. وهناك مخاوف حقيقية من انهيار عدد من الشركات الأميركية الناشئة بفعل ذلك، فما نفع أن تنتج AI جديداً ومنافسها الصيني مجاني ومفتوح المصدر؟ وقد تكون «أنفيديا» التي قفزت قيمتها السوقية 200 في المئة في عام واحد بفضل الطلب الجنوني على رقاقات الذكاء الاصطناعي، الأكثر تضرراً من صعود نماذج مثل DeepSeek. ليس ذلك فقط، فكما أشرنا سابقاً، يعمل هذا الـ AI عبر شرائح «أنفيديا» القديمة التي لا تطالها العقوبات، لكن عملاق التكنولوجيا الصيني «هواوي»، أعلن في الأيام الماضية أنّه استطاع تشغيل DeepSeek على شرائح Ascend التي ينتجها هو بشكل كامل. وهذا تطور بالغ الأهمية سيعمّق من جراح «أنفيديا».
ثالثاً، أنظمة الذكاء الاصطناعي منحازة، وهي مصمّمة بطريقة احترافية لتمرير السردية الغربية. ولكن مع وجود نظام صيني متفوق اليوم، يعني أنّ السردية السياسية في العالم الرقمي أصبحت في حالة توازن. رابعاً، يُقدّم DeepSeek رؤيةً تُعيد تعريف مفهوم الملكية الفكرية في العصر الرقمي، مُعلناً أنّ الرأسمالية التي حوّلت نظام المعرفةَ إلى سلعة استثمارية ليست قدراً، وأن هذا التقدم هو ميراث إنساني مشاع، مستلهماً نضالات مئات المبرمجين الذين حاربوا من أجل «تحرير الكود البرمجي»، مثل مؤسس «حركة البرمجيات الحرة»، ريتشارد ستولمان، وأحد أفضل أبناء الإنترنت، المبرمج آرون شوارتز، الذي دفع حياته ثمناً لذلك.
عملياً، هذا تقدم تقني يحمل أبعاداً أيديولوجية تتماشى مع ملامح الثورة الصناعية الرابعة، وتحت شعار «شيوعية البيانات». لكن السؤال الآن: هل يستطيع الغرب تقبّل فكرة أنّه لا يقود التقدّم التكنولوجي؟ وكيف سيكون شكل النظام العالمي الجديد عندما تُحدِث الصين، بقوة الذكاء الاصطناعي، قطيعةً مع هيمنة الغرب التكنولوجية التي دامت قروناً؟ الإجابة قد تكون أقرب مما نتخيّل.