جريدة الأخبار
تولّي وزير (ة) لحقيبة التربية في الحكومة العتيدة يمثل تحدياً كبيراً، فهو أو هي، بحسب مجموعة من الخبراء والباحثين التربويين مطالب/ة بإعادة النظر في مقاربة التعليم ومبادئه، وتصور الدولة والوزارة لدوره، وآليات التحول إلى نظام تعليم فعال ذي جودة. فقد أعد هؤلاء ورقة مبادئ تمثل إطاراً لإعادة صياغة نظرة الحكومات السابقة للتعليم وتوظيفه كمساحة للمحاصصات، ما أدى إلى تراجعه، لا سيما بعد عجز الوزارة والحكومة عن إيجاد الحلول المناسبة للأزمات المستمرة، وآخرها تداعيات الحرب على التلامذة، وخصوصاً في قرى الجنوب والحافة الأمامية.
التربويون أجمعوا على أن دور وزارة التربية هو حماية حقوق جميع الطلاب والعاملين التربويين في التعليم الشامل والعادل والجيد، والذي هو معيار وضابط لأي عملية إصلاح أو تغيير.
ومع انتخاب رئيس للجمهوريّة وتشكيل حكومة جديدة، يتطلع الموقعون على ورقة المبادئ إلى أن تكون مادة للبيان الوزاري وأن تعتمدها الحكومة في سياساتها التربوية للسنوات المقبلة، "فالتعليم ليس فقط منفعة عامة، بل هو أيضاً مستقبل الوطن على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمواطنة، وهو مسؤولية مشتركة". ويوصون بأن يتمتع الوزير/ة العتيد/ة بالرؤية والشجاعة والتفويض لتنفيذ تحولات جدية في الطريقة التي يعمل ويدير بها النظام التعليمي في لبنان. وسلم اليوم وفد من التربويين الورقة لرئيس الحكومة المكلف نواف سلام.
وتتضمن الورقة محاور عدة:
حقوق الطلاب
أرست حوكمة القطاع التربويّ خلال العقود الماضية ممارسات جعلت الكثير من المؤسّسات والإدارات التربويّة حقلًا لممارسة النفوذ السياسيّ، حتّى تحوّلت هذه المؤسسات والإدارات إلى خدمة القائمين عليها على حساب الطلاب، ما أدّى إلى تنشئة هؤلاء على العقل المُغلَق وإلى تردّي نوعيّة تعليمهم. لذا تنطلق هذه الورقة من حقوق هؤلاء المهدورة والبناء عليها. وهذه الحقوق هي:
حقّ الطلاب في لبنان، من الروضة إلى التعليم العالي، في الحصول على كلّ فرص التعلّم الجيّد، في جميع أنواع التعليم وفي جميع مكوّناته، ليس فقط من أجل تحسين مستواهم في الامتحانات النهائيّة والاختبارات الدوليّة، وتحسين الرأسمال البشريّ الوطنيّ عمومًا، بل أيضًا من أجل الحفاظ على كرامة المتعلّمين وتحسين قدراتهم المعرفيّة والمهاراتيّة والعاطفيّة في التعامل مع قضايا الحياة المعاصرة والمجتمع الذي يعيشون فيه، ويكونون أعضاء فاعلين في المجتمع اللبنانيّ.
حق الطلاب في لبنان، من الروضة إلى التعليم العالي، في التعلّم في بيئة تربويّة صحيّة تقوم على الإدماج (إدماج المهمّشين والمعرّضين للتسرّب المدرسيّ وأبناء الفقراء وذوي الحاجات الخاصّة، والنازحين إلخ)، وذلك في بيئة تربويّة تقوم على تقدير التنوّع والاختلاط الاجتماعيّ (ما بين الثقافات الفرعيّة، والجنسين والمناطق والطوائف والطبقات الاجتماعيّة)، وعلى الإنصاف (أي أن نعطي أكثر لمن يحتاج أكثر)، وفي بيئة تربويّة توفّر لهم معلّمين ومديرين أكفّاء وملتزمين، وفي بيئة تربويّة تقوم على حريّة التعبير عن الرأي والمشاركة في اتّخاذ القرارات المتعلّقة بهم (بما في ذلك القرارات المتعلّقة بإدارة المؤسّسات التي يتعلّمون فيها).
حقّ الطلاب في لبنان، من الروضة إلى التعليم العالي، في أن يبنوا معرفتَهم بأنفسهم، بحيث يكون لكلِّ متعلّم طريقة وخصوصيّة في فهم القضايا وليس بالضرورة أنْ يفهمَها كما يريدها المعلّم، ويتمّ التعلّم من خلال الملاحظة والمعالجة والتفسير والمناقشة والحوار بناءً على البنية المعرفيّة الخاصّة بالفرد، ويتمّ تعلُّم الفرد عندما يكون في سياقات حقيقيّة واقعيّة وتطبيقات مباشرة تسمح للمتعلّم بأنْ يُكوِّن معنىً خاصًا به.
حقّ الطلاب في لبنان، من الروضة إلى التعليم العالي في تعلّم كليّ، يشمل اكتساب المعارف العلميّة والتكنولوجيّة وإتقانها والمهارات التي تساعدهم في حلِّ المشكلات والتفكير النقديّ لاتِّخاذ القرارات المتعلِّقة بالقضايا اليوميّة ذات العلاقة، وفي اكتساب رأسمال لسانيّ متعدّد اللغات، وأوّلها اللغة العربيّة، وفي اكتساب التفكير العلميّ والنقديّ والتاريخيّ وقيم المواطنة ومهاراتها وثقافة القانون، والمهارات التواصليّة والرقميّة والصحيّة والبدنيّة والتذوّق الفنيّ والحُكم الجماليّ.
حقّ الطلاب في لبنان، من الروضة إلى التعليم العالي، في التعلّم والعمل والبقاء في بلدهم، والمساهمة في العمل العامّ، وخدمة المجتمع، والحصول على الحماية الاجتماعيّة من البطالة والمنافسة الأجنبيّة والعمل في بيئة آمنة.
الحوكمة الرشيدة للتربية والتعليم
من أجل ضمان هذه الحقوق يجب أن تقوم حوكمة القطاع التربويّ (الوزارة) على خمسة مبادئ:
العدالة، في توزيع الموارد البشريّة والماديّة والماليّة، وضمان العيش الكريم للهيئات التعليميّة، وحصولهم على مداخيل مجزية، وضمان الاستقرار والتطوير المهنيّ، والاستناد إلى الكفاءة في التعاقد والتعيين والترقية بناء على معايير "غير شخصيّة" و"غير سياسيّة"، يجري تطويرها باستمرار.
ثقافة القانون، أي الحرص على إصدار القوانين والأنظمة والتعاميم والمعايير التي ترعى الحقوق والواجبات، وإعادة تنظيم وزارة التربية والتعليم العالي على أساس تكامل الأدوار وتواصلها وتعاونها وتوفير فعاليّتها في عملها وتوفير التعاون في ما بينها، وتطوير توصيف الوظائف المطلوبة في التسيير وتطبيقه، على أساس اللامركزية وتطبيق مبدأي الشفافيّة والمحاسبة.
التسيير على أساس المعرفة، وهذا يشمل توليد المعلومات والدراسات التشخيصيّة والبحوث العلميّة ونشرها، بما يسمح بالمتابعة وسرعة الوصف والتحليل وتحسين اتخاذ القرارات.
الشراكة والمشاركة، الشراكة ما بين المؤسّسات التربويّة والسلطات المحليّة والهيئات المدنيّة والاقتصاديّة والصحيّة والحقوقيّة والعلميّة، وما بين وزارة التربية وسائر الوزارات المعنيّة بالشأن التربويّ وخصوصًا وزارة الشؤون الاجتماعيّة. وحفظ استقلاليّة المؤسّسات التربويّة عن الأحزاب السياسيّة، في تسييرها وفي مناهجها المعلنة أو الخفيّة أو الموازية. والمشاركة، أي دعوة الطلبة والمعلّمين وإدارات المدارس والجامعات وموظّفيها والأهالي وهيئاتهم والهيئات التمثيليّة للتربويّين والهيئات الأكاديميّة، إلى المساهمة في التفكير واتخاذ القرارات في قضايا الشأن التربويّ العامّ.
الفعاليّة، أي إدارة القطاع التربويّ، من خلال إدارة رشيقة تحقّق أفضل النتائج استنادًا إلى الاستثمار الأفضل للموارد المتاحة.
أمّا المؤسّسات التربويّة، من مدارس وجامعات ومعاهد، فتُدعى إلى اعتماد المبادئ نفسها فضلًا عن إجراء عمليّات تقييم ذاتيّ استنادًا إلى معايير متّفق عليها ووضع مشاريع وبرامج تطويريّة وتنفيذها ضمن جداول زمنيّة، مع مشاركة فعّالة من قبل الشركاء وأهل المؤسّسة في التقييم والتنفيذ، على أساس التطوير المبنيّ على المؤسّسة. ويكون على الوزارة أن تشجّع المؤسّسات وتدعمها بالموارد البشريّة والماليّة للقيام بالتقييم والتطوير على السواء، ضمن خطّة شاملة لتطوير التعليم في لبنان.
دور الدولة
الدولة هي الضامن للتماسك الاجتماعيّ ولِجودة الخدمات الاجتماعيّة بما فيها التعليم، وضمان حقوق الطلاب من الروضة إلى التعليم العالي في القطاعين الرسميّ والخاصّ، باعتبارها تُمثِّل السلطة العامَّة المُخوَّلة بكلِّ ما يتعلَّق بالشأن العامّ والمصلحة العامّة. وهي تقوم بهذه المهمّة عن طريق التأطير والرعاية والإشراف.
التأطير : يشمل إصدار القوانين والأنظمة والمناهج والمعايير وما يرتبط بها من رقابة وتدقيق ومحاسبة وجزاء، وبما يشمل ضبط العمليّات التربويّة وتوفير الموارد والمرجعيّة العموميّة في الحكم على الأداء المؤسسيّ والفرديّ ويحمي حقّ التعبير والتنوّع في الممارسات التربويّة ويضمن جودة الخدمات التعليميّة والإداريّة والماليّة في القطاع التربويّ، ويضمن حقّ المعلّمين في عيش كريم ومستقرّ والحصول على فرص تطوير مهنيّ. ويشمل التأطير وضع آليات تقييم أداء المؤسّسات التعليميّة لضمان امتثالها لمعايير الجودة. وهو يشمل أيضًا القطاعين الرسميّ والخاصّ، بحيث تكون الدولة هي المرجع والحَكم في كلّ ما يتعلّق بالمصلحة العامّة.
الرعاية: تعني أنّ الدولة ليست فقط جهة ضبط ورقابة بل هي جهة حريصة على دعم الجهد التربويّ في لبنان أفرادًا وهيئات ومؤسّسات، في القطاعين العامّ والخاصّ. تشمل الرعاية تقديم المزيد لمن هم أكثر حاجة، سواء تعلّق الأمر بالمناطق الجغرافيّة أو الفئات الاجتماعيّة أو الفئات المهنيّة التربويّة (وبخاصّة المعلّمين) أو المراحل التعليميّة، تطبيقًا لمبدأي العدالة والإنصاف. وتشمل الرعاية تقديم الدعم الفكريّ والماديّ للجهود والمبادرات التربويّة التطويريّة والرائدة، وتقديم الحوافز لإطلاق هذه المبادرات من دون تمييز بين جامعة في المركز ومدرسة أطفال في الأطراف. وتشمل الرعاية تخصيص المنح والحوافز للمتفوّقين والمبدعين وتقديم الجوائز للتجارب الرائدة.
الإشراف: تتحمّل الدولة، بالإضافة إلى التأطير والرعاية في القطاعين، مسؤوليّة تسيير القطاع العموميّ، في جميع مراحله، ونوعيْه العامّ والمهنيّ-التقنيّ، بالإضافة إلى وصاية الوزير على الجامعة اللبنانيّة. وهذا يشمل الإدارة والتمويل والمتابعة والتدريب والتطوير المستمرّ، والمبادرة إلى الإصلاح، من أجل جعل هذا القطاع منافسًا حقيقيًا للقطاع الخاصّ، مع تطبيق أعلى المعايير المتعارف عليها دوليًا. على الحكومة إجراء إصلاح شامل للقطاع العموميّ، في مؤسّساته والإدارات المشرفة عليه وأساليب إدارته وتطويره، استنادًا إلى المبادئ المذكورة حول حقوق الطلبة والحوكمة الرشيدة.
خارطة الطريق نحو التعافي والبناء
في ضوء الأزمات المتتالية التي شهدها لبنان، بدءًا من التداعيات الاقتصاديّة، مرورًا بجائحة كوفيد-19، وصولاً إلى آثار العدوان الإسرائيليّ الأخير، ونظرًا لتراكم الممارسات السلبيّة خلال العقود الماضية، ما أضرّ بهذا القطاع،
وفي ضوء المبادئ المذكورة أعلاه، وأخذًا بعين الاعتبار العمر القصير المقدّر لهذه الحكومة، وحدّه الأقصى الانتخابات النيابيّة القادمة في العام 2026، من الضروريّ وجود خارطة طريق ذات خطّين، خطّ الإجراءات على المدى القصير وخطّ التأطير على المدى البعيد، يسيران جنبًا إلى جنب:
الإجراءات (برامج ومشاريع) وهذا يشمل:
مسح الخسائر التعليميّة (لدى الطلاب) والتربويّة (في المؤسّسات والوزارة). وإعطاء الأولويّة الزمنيّة في هذا المسح للمناطق الأضعف، أي تلك التي استهدفها العدوان الإسرائيليّ خلال الحرب الأخيرة. وبناء على هذه المسوح توضع خطط تربويّة طارئة وبرامج دعم من أجل عودة الحياة الطبيعيّة إلى المؤسّسات وتعويض الأضرار التعلميّة لدى الطلبة، وتقديم الدعم التربويّ النفسيّ للذين تسبّبت لهم ظروف عيشهم بمشكلات انفعاليّة-معرفيّة-اجتماعيّة جدّيّة.
تقييم الموارد والبنى البشريّة المتاحة وحاجتها إلى التعزيز والتطوير المهنيّ وإعادة توزيعها تبعًا للحاجة والكفاءة، وتغذية الأجهزة التربويّة في الوزارة والمؤسّسات التربويّة بجيل جديد من العاملين يتمتّع أفراده بثلاث صفات على الأقل: الكفاءة والأخلاق المهنيّة والالتزام المجتمعيّ، وإعادة تعريف هذه الصفات بصورة معايير واضحة.
تقييم البرامج الجارية خصوصًا تلك المتعلّقة بتطوير المناهج إن من حيث هيكليّة العمل أو من حيث المقاربة المعتمدة في التنفيذ أو من حيث نواتجها، وإجراء التعديلات اللازمة.
تحديث الإدارة التربويّة بشريًا وتقنيًا ومفهوميًا، وإنشاء وحدة لإدارة الأزمات وتوفير الجهوزيّة التقنيّة في الوزارة والمؤسّسات التربويّة لمواجه التطوّرات التربويّة المتسارعة خصوصًا في الحقل التكنولوجيّ. وأن يصار إلى "تخفيف" عمل الإدارة المركزيّة والتركيز فيها على التخطيط والتقييم وبلورة المعايير وغيرها، ووضع المزيد من المسؤوليّة والمحاسبة على عاتق المناطق التربويّة والمؤسّسات التعليميّة.
إنشاء هياكل تمثيليّة وتفاعليّة جديدة بين التربويين، محورها الهيئات المهنيّة المتخصّصة، والمؤتمرات والتشبيك ما بين المؤسّسات وما بين لبنان والخارج، هيئات تقدّم مساهمات عامّة في اختصاصها وفي مهنة المشاركين فيها وتشارك في التطوير على المستوى العامّ (الخطط والمناهج وغيرها) وعلى مستوى المؤسّسات التي يعمل فيها أعضاؤها.
توفير الموارد الماليّة اللازمة لتصميم هذه البرامج والمشاريع وتنفيذها.
تعديل القوانين التي تنظّم تعيين المعلّمين والتعاقد معهم، بمن فيهم المديرين وسائر الوظائف التربويّة، ما يُنهي الممارسات التي ترسّخت خلال نصف قرن، ويجعل المعلّمين يشعرون بأنّهم يحصلون على وظائفهم ويمارسونها ويترقّون فيها ويتقاضون أجورهم على أساس الاستحقاق والإنتاجيّة، وليس على أسس الولاء السياسيّ. وهذا يشمل إعادة تأطير تمهين وظائف المعلّم والتشديد على التأهيل المستمرّ وبناء القدرات.
إعادة النظر في الشهادة الثانويّة في فروعها كافة، ومكانة التعليم المهنيّ وعلاقته بالتعليم العامّ.
إعادة النظر في الهياكل والمعايير التي ترعى التعليم الخاصّ، بما في ذلك التعليم العالي، وتطويرها بما يتفق مع دور الدولة في رفع المستوى العامّ للتعليم واستعادة الجاذبيّة التي كانت له، في الحقول التي تعطي لبنان ميزات تفاضليّة.
إعادة النظر في النظم والهياكل والمعايير التي ترعى الجامعة اللبنانيّة، وعلاقتها بالحكومة واستقلاليّتها عن الأحزاب السياسيّة في الحكومة أو في تسييرها الداخليّ. والشروع في وضع مشاريع تطويريّة ومشاريع مراسيم وقوانين لجعل الجامعة اللبنانيّة، كما يجب أن تكون: مؤسّسة عامّة توفّر تعليمًا ذا جودة لجميع اللبنانيين، وتعمل على هدى المعايير الأكاديميّة والشفافيّة والمحاسبة، وثقافة القانون، والاندماج الاجتماعيّ