قصة علي حمادة/ موقع الميادين نت
اليوم أنا على ضريح "مرضيه". أمي. أقف أنا وحفيدتها "مرضيه" ابنتي. أخبرها عن جدتها. عن أمي التي لم تتعب في مسيرة الثورة رغم المرض العضال، واستمرت في عطائها حتى النفس الأخير.
طُرِق باب بيتنا الخشبي القديم طرقًا كاد يخلعه. نظرت فورًا في عيني أمي. لم ترتبك، فقط رفعت رأسها قليلًا نحو السماء.
- أَدخلي أخوتك إلى الغرفة بسرعة، قالت وهي تشير بيدها وتمشي في باحة الدار نحو الباب.
فتحت الباب قليلًا وسترت نفسها خلفه. لم تكد تسأل من حتى دفع الرجل الباب فاندفعت أمي. مشهد جعل قلبي ينقبض. مشهد فيه رائحة الشر والنار . دخل الرجل وتبعه آخر.
- هيا معنا أيتها الخائنة، صرخ في وجه أمي ملوحًا بمسدسه.
لم تقاوم. عيناها انقلبتا إلى بركاني حمم من التحدي. صوت بكاء أخوتي الصغار جعلها تنظر إلي من جديد. تقول بحزم كأنها تعطي أوامر عسكرية لرفيقاتها في الثورة.
- فاطمة... انتبهي إلى إخوتك.. لن أتأخر.
وقفت عند الباب أنظر إلى الرجلين. أحدهما يدفع أمي إلى داخل السيارة السوداء، والآخر يصعد من الجهة الثانية. أراد الرجلان الضخمان أن يحشراها بينهما. منظر لم يش أبدًا أن المكان الذي سيأخذونها إليه سيكون فيه فسحة من الأمل.
تحركت السيارة التي كتب على لوحتها الخلفية "سافاك". أصبحت سيارات أمن الشاه معروفة لكثرة الاعتقالات، حتى تلك التي لا تحمل لوحة.
كنت في الــ 16 من عمري. أنا أيضًا طفلة كإخوتي لكني شعرت أنه يجب أن أكون قوية... قوية مثلها تمامًا. لم تكن تلك أول مرة توصيني بإخوتي. منذ شهر، عندما فرض الشاه حظرًا ومنع الناس أن تخرج، خرجت. أوصتني أن أنتبه لهم ونزلت إلى الشارع. نزلت تحمل صورة الإمام الخميني. بكيت من خوفي.
هذه المرة لم أبك. الرجلان الضخمان والباب والمسدس والسيارة. لم أبك. أردت أن أكون مثلها، قوية وصلبة. تذكرت الشرارة في عينيها، وأنا أحضن أخوتي وأهدئ روعهم. الآن هي في السجن. كانت ليلةً موحشة وطويلة. لم يجرؤ أحد من الجيران على الاطمئنان عنا. ربما خافوا أن يكون بيتنا مراقبًا. جاءت خالتي في اليوم التالي عندما علمت باعتقال أختها.
- ستأتي، ستعود.. ظلت خالتي تردد هذه العبارة على مسامعنا وهي تبكي.
طُرِق الباب مجددًا بعد أسبوع.
- إنها أمي.. هتفت وأنا أركض نحو الباب. تبعني أخوتي الصغار ببراءتهم وهم يقولون "ماما ماما".
فتحت الباب. كان الرجل الشرير نفسه. حاولت أن أنظر وراء جسده الضخم لعلي أرى أمي. هل هي معهم. مد يده بسرعة خاطفة وأمسكني من رأسي. نزع حجابي وشدني من شعري إلى صندوق السيارة.
دخلوا بي إلى السجن. جروني إلى زنزانة بعيدة يبدو أنها مخصصة لأصحاب التهم الكبيرة. لا يوجد تهمة أكبر من تهمة أمي. إنها من أنصار الإمام. كنت أفكر بخوف.
فتح الحارس الباب.. دفعني. كانت هناك امرأة جالسة تسند ظهرها المحني إلى الحائط. رفعت المرأة رأسها. شاهدتني.
- فاطمه ابنتي.. همست.
- ماما... صرخت وأنا أفتح عيني وفمي على وسعهما كأنني أشاهد فيلم رعب.
لم أعرف أمي.. يا إلهي. كانت تغطي رأسها ببطانية بعد أن سلبوها حجابها. كدمات الضرب على وجهها وعينيها. أثر حروق السجائر المطفأة على جلدها. حروق الكهرباء في ذراعيها وقدميها. كنت أمام إنسان أو شبه إنسان خرج لتوه من القبر. لا أدري كم مرة ماتت وعاشت في ذلك السجن الرهيب، لكن رؤيتي هدت صبرها وكسرت ظهرها وكادت تعلن استسلامها. فهمت لحظتها، وهي تحضنني أنهم أحضروني لكي يزيدوا الضغط النفسي عليها لا لكي أزورها كما توهمت.
- لو اعترفت سأكون أنا السبب.. حدثت نفسي بخجل.
- أين الخميني الآن ليخلصكما؟ جاء صوت خشن من وراء القضبان.
لذت بأمي. هي استترت ببطانيتها وأنا استترت بها.
بدأ الحارس الجلاد يقهقه لهذا المشهد.
- اقتلوني ألف مرة فلن أخبركم بشيء. حياتي فداء للخميني.
كتمت جملتها قهقهة الحارس الخبيثة وجعلت بدني يقشعر. إنني أكتشف أكثر في كل مرة كم هي أقوى. روحها لا تقهر. أرادت بجملتها أن تعلن فشل سلاحهم الاستراتيجي الأخير للضغط عليها.. أنا. في الليلة نفسها أخرجوني وتركوها. كانت تصرخ باسمي رغم ألم حنجرتها وخفوت صوتها من شدة التعذيب. بعد ساعات تناوب الحراس خلالها على تعذيبي أرجعوني إلى الزنزانة. لم أجلس في حضن أمي ولا حتى بقربها. تركتها وذهبت إلى زاوية السجن. جلست أبكي ورأسي منكس إلى الأرض. زحفت نحوي. مدت يدها إلى خدي. رفعت رأسي ونظرت في عيني، ثم فجأةً شهقت كمن تختنق وضربت الحائط برأسها وهي تصرخ :
- يا إلهي.. أرجوك لا.. أرجوك.
فهمت أمي ماذا أخذ مني هؤلاء الرجال. لا ندري من أين أرسل الله لنا ذلك الصوت. أصخنا سمعنا. صوت عذب جاء من زنزانة أخرى خلف حائط زنزانتنا. سمعنا شابًا بدا ألمه وحزنه وأثر تعذيبه كجرح الناي في شجي صوته وهو يتلو لنا:
- "واستعينوا بالصبر والصلاة".
بعد أيام وأسابيع توقفنا عن العد. استيقظنا على أصوات ضجيج. سمعنا الحراس يصرخون مذعورين:
- سور السجن يتحطم.
كان شباب الثورة وشعبها يقتحمون الساحات. يقتحمون قصور الشاه وسجونه. فرّ السجانون. دخل شباب الإمام وفتحوا أبواب الزنازين. خرجنا للحرية.. للنور.. للثورة.
اليوم أنا على ضريح "مرضيه". أمي. أقف أنا وحفيدتها "مرضيه" ابنتي. أخبرها عن جدتها. عن أمي التي لم تتعب في مسيرة الثورة رغم المرض العضال، واستمرت في عطائها حتى النفس الأخير.
أقرأ على لوحة وضعت فوق شاهد قبرها: فدائية الإمام الخميني. من أكبر مجاهدات إيران ضده الشاه. مرافقة الإمام ومن قياديي الحرس الثوري وعضو مجلس الشورى الإسلامي. لكن أنا كتبت جملتي الخاصة. الجملة التي أعرف أنها تحبها.
يوم خرجنا من السجن كان بعض الرجال والنساء من رفاقها الثوريين من أنصار الإمام الذين لم تعترف بأسمائهم يتحومون حولها، يطمئنون عنها. يومها قالت جملة واحدة، صرخت بها من أعماق أعماقها: "لقد جاء الإمام... لقد خلّصنا".