فادي الحاج حسن / كاتب وباحث لبناني
في ظل الثورة التكنولوجية التي يشهدها العصر الحديث، أصبحت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي أدوات فاعلة في تشكيل الوعي الفردي والجماعي. لكن هذه الأدوات، على الرغم من فوائدها، تحولت إلى ساحات لـ"حروب العقول"، إذ تُستغل تقنيات متقدمة للتأثير على الرأي العام وتوجيهه لخدمة مصالح سياسية أو اقتصادية. يسلط كتابا "المتلاعبون بالعقول" لشيللر هربرت و"قصف العقول" لفيليب تايلور الضوء على آليات هذا التلاعب، مشيرين إلى أن السيطرة على المعلومات لم تعد مجرد تكتيك إعلامي، بل أصبحت استراتيجية لفرض الهيمنة الثقافية والسياسية.
يهدف هذا المقال إلى تحليل ظاهرة التلاعب بالعقول عبر المنصات الرقمية من منظور سوسيوسياسي، مع التركيز على مفاهيم مثل الهوية الرقمية، المجتمع الرقمي، واستراتيجيات التحكم في الرأي العام، مستندًا إلى الأدبيات السابقة وتحليل البيانات المعاصرة.
التلاعب بالعقول؛ المفاهيم والاستراتيجيات
- المفهوم العام
يشير التلاعب بالعقول إلى استخدام تقنيات نفسية وخوارزميات رقمية لتوجيه سلوك الأفراد وقناعاتهم من دون وعيهم. تعتمد هذه الاستراتيجيات على استغلال نقاط الضعف الإنسانية، مثل الخوف أو الرغبة في الانتماء إلى خلق واقع مُصمم خصيصًا لتلبية أجندات محددة. على سبيل المثال، تُستخدم منصات مثل فيسبوك وتيك توك خوارزميات تفضيل المحتوى لتعزيز "فقاعات الترشيح"، ما يعزل المستخدمين عن الآراء المخالفة ويُعمق الانقسامات المجتمعية.
- الهوية الرقمية وتأثيراتها
تُعرف الهوية الرقمية بأنها البصمة الافتراضية التي يتركها الفرد عبر نشاطه على الإنترنت، والتي تشمل بيانات شخصية وسلوكيات تفاعلية. تؤثر هذه الهوية بشكل مباشر في:
- صورة الذات: قد تدفع المقارنات الاجتماعية المستخدمين إلى تبني شخصيات مُفبركة، ما يُضعف الثقة بالنفس.
- الخصوصية: يؤدي التسريب المتعمد أو غير المقصود للبيانات إلى انتهاكات أمنية، مثل التلاعب الانتخابي عبر تحليل البيانات الشخصية، كما حدث في فضيحة كامبريدج أناليتيكا.
أما الآثار غير المباشرة فتشمل تغييرًا في المهارات الاجتماعية، حين يُفضل الأفراد التفاعل الافتراضي على الحوار المباشر، ما يُضعف النسيج الاجتماعي.
- الإنسان الرقمي والمجتمع الرقمي
الإنسان الرقمي هو نتاج تفاعله المستمر مع التكنولوجيا، فتصبح هويته مرتبطة بوجود افتراضي. من الآثار المباشرة لهذه الظاهرة:
- الإدمان الرقمي: وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، صنفت الإدمان على الألعاب الرقمية اضطرابًا نفسيًا.
- تغيير القيم: تحولت القيم التقليدية مثل التعاون إلى قيم استهلاكية، حيث تُقاس المكانة الاجتماعية بعدد المتابعين أو الإعجابات.
أما المجتمع الرقمي، فيتميز بكونه فضاءً افتراضيًا تُعاد فيه تشكيل الديناميات الاجتماعية. ففي حين تسهل المنصات التواصل العابر للحدود، هي تعزز أيضًا التمييز عبر خلق مجتمعات مغلقة؛ مثل مجموعات الكراهية على تيليجرام.
استراتيجيات التلاعب؛ من الإعلام التقليدي إلى السوشيال ميديا
- الآليات المستخدمة
- التحيز الإعلامي: تقديم الأخبار بزوايا مُختارة لتعزيز رواية معينة؛ مثال: تغطية وسائل الإعلام الغربية لأحداث غرب آسيا (الشرق الأوسط).
- المعلومات المضللة: نشر أخبار كاذبة لخلق فوضى معرفية، كما حدث خلال جائحة كوفيد-19 مع ترويج نظريات المؤامرة.
- الاستهداف العاطفي: استخدام محتوى يثير الخوف أو الفرح لتقبل الرسائل؛ مثل الإعلانات السياسية التي تستغل صور الأطفال لتعاطف الناخبين.
- الأهداف الخفية
- تشكيل الرأي العام: في الانتخابات الأمريكية 2016، استخدمت الحملات السياسية بيانات مستخدمي فيسبوك لاستهدافهم برسائل مُخصصة.
- التقسيم المجتمعي: تعزيز الانقسامات عبر تصوير الخصوم "أعداءً"، كما تفعل بعض الحكومات الاستبدادية لقمع المعارضة.
- المكاسب الاقتصادية: شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل جوجل وأمازون، تبيع بيانات المستخدمين لجهات تسويقية، ما يحول الأفراد إلى سلع رقمية.
- الآثار الاجتماعية
- فقدان الثقة في المؤسسات: وفقًا لاستطلاع بيو ريسيرتش، 64% من الأمريكيين يعتقدون أن وسائل الإعلام التقليدية تنشر أخبارًا مُضللة.
- تآكل التماسك الاجتماعي: تظهر الدراسات أن التعرض المستمر لمحتوى متطرف يزيد من العنف المجتمعي.
التلاعب بالعقول عبر المؤثرين والمشاهير
أصبح المؤثرون (Influencers) أدوات رئيسة في التلاعب بالعقول، هم يتمتعون بمصداقية تفوق الإعلانات التقليدية. على سبيل المثال:
- ترويج منتجات غير ضرورية: تدفع حملات المؤثرين الشباب إلى الاستهلاك المفرط، مثل منتجات التجميل أو المكملات الغذائية.
- تشكيل معايير الجمال: تسببت صور المشاهير المُعدلة بالفوتوشوب في ارتفاع معدلات اضطرابات الأكل بين المراهقين.
- التأثير السياسي: خلال الانتخابات البرازيلية 2022، استخدم الرئيس بولسونارو مؤثرين لنشر خطاب كراهية ضد خصومه.
أمثلة عابرة للمجالات
- الاقتصاد
- التسويق المضلل: إعلانات تروج لـ"خصومات وهمية" لخداع المستهلكين.
- الأخبار الاقتصادية الزائفة: نشر تقارير مالية مُبالغ فيها للتأثير على أسواق الأسهم.
- السياسة
- صناعة الأعداء: تصوير اللاجئين أنهم تهديد لأمن الدول في الحملات الانتخابية الأوروبية.
- تضليل الناخبين: استخدام الروبوتات (Bots) لنشر شائعات عن المرشحين المنافسين.
- الفردانية
- تسليع الذات: تحويل الأفراد إلى "علامات تجارية" على إنستغرام، ما يُضعف العلاقات الإنسانية الحقيقية.
الخلاصة والاستنتاجات
كشفت التحليلات أن التلاعب بالعقول لم يعد مقتصرًا على الدعاية التقليدية، بل تحول إلى نظام معقد يعتمد على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات. من أبرز النتائج:
- زيادة الاستقطاب الاجتماعي بسبب فقاعات المعلومات.
- تآكل الثقة في المؤسسات الإعلامية والسياسية.
- تحول القيم المجتمعية نحو الاستهلاكية والفردانية.
الحلول المقترحة
- تعزيز التعليم النقدي: تدريس مناهج لتحليل المصادر الإعلامية في المدارس.
- تشريعات صارمة: فرض قوانين تجبر المنصات على الكشف عن المحتوى المدفوع.
- حماية البيانات: تطبيق أنظمة مثل GDPR في أوروبا لمنع استغلال المعلومات الشخصية.
* تُعد اللائحة العامة لحماية البيانات GDPRقانونًا أوروبيًا جديدًا لحماية البيانات دخل حيز التنفيذ في مايو 2018.
المراجع
- شيللر هربرت، "المتلاعبون بالعقول"، 1999.
- فيليب تايلور، "قصف العقول"، 2003.
- تقرير منظمة الصحة العالمية عن الإدمان الرقمي، 2018.
- دراسة جامعة ستانفورد حول التضليل الإعلامي، 2020.