حسين كوراني
"نحن شعب ما مننهار"؛ بهذه العبارة اختصرت إحدى نساء جنوب لبنان احتلال جيش العدو لأرضها، يوم زحف أهالي الجنوب في 26 كانون الثاني 2025، لإرغام "إسرائيل" على تنفيذ اتفاق سحب قواتها من قراهم المحتلة. موقف هذه المرأة التي وقفت أمام دبابة "الميركافا" يعبّر عن ثقافة هذا الشعب المقاوم إزاء أي عدو يريد أن يحتل أرضه ويمارس القتل والظلم بحقه.
هذه الثقافة الراسخة عند أهل المقاومة والجنوبيين تحديدًا في مقارعة الاحتلال الإسرائيلي ليست وليدة الساعة، بل هي نتاج مسار طويل من الأحداث والمحطات التاريخية المؤلمة التي تعرّضت لها بيئتهم عبر قرون من الزمن. وإلا كيف لشباب أن يقفوا صامدين أمام أحدث تكنولوجيا يمتلكها الكيان الصهيوني في العالم، من طائرات تمطر أرضهم بآلاف الصواريخ الذكية والثقيلة التي تزلزل الجبال والأودية، ومن مُسيّرات تراقبهم وتتعقبهم، ليلاً ونهارًا، لتغتالهم.. ومع كل ذلك؛ لا يأبهون بالموت ولا مكان عندهم للتراجع، يمشون خلف قائدهم بكل شجاعة وثبات، وإن قُتل القائد تَراهم أكثر بأسًا، لا يتسلّل الوهن والخوف إلى قلوبهم.
إذًا، ما سرّ هذه القناعة لديهم في الإصرار على القتال، ومن أين يستمدّ أهل الجنوب (جبل عامل) هذه الشخصية الراسخة في مواجهة الاحتلال والظلم والغطرسة الصهيونية المتمادية!؟
لم تكن شخصية العاملي المضحيّة وليدة نضالات العقود الأخيرة فقط، وإن كان لعدد من القادة التأثير عليها منبّهةً إياها من مخاطر المشروع الصهيوني على المنطقة، أمثال المرجع الديني السيد عبد الحسين شرف الدين الذي دعا إلى الوقوف مع أهلنا في فلسطين، والسيد موسى الصدر الذي رأى أنّ الدفاع عن لبنان وفلسطين واجب شرعي، وقال: "فلسطين التي تتعرض لجميع أنواع الظلم هي في قلب حركتنا وعقلها، وأنّ السعي لتحريرها أولى واجباتها".. أضف إليهما شهيد الأمة سماحة السيد حسن نصرالله الذي قال: "والله، إسرائيل هذه أوهن من بيت العنكبوت"، هذه العبارة التي أطلقها في مهرجان انتصار 25 أيار 2000 في بنت جبيل، والتي بات من الصعب انتزاعها من عقول قادة العدو والمستوطنين الصهاينة.
إذًا، لهذه الشخصية العاملية إرث عريق توارثته العائلات جيلًا بعد جيل، بدءًا من شخصية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، ذلك الثائر الفذ المعروف بمواقفه الصلبة ضد الظلم والطغيان. وتابع مسيرته المجتهدون من كبار علماء جبل عامل، فبرز منهم رجال عظام وقفوا سدًا منيعًا في وجه كلّ محتل على امتداد أكثر من ألف عام وقادوا الحروب بأنفسهم، مسجلين الانتصارات على الأعداء.. قاتلوا الصليبيين؛ فكان لهم فضل كبير في اندثارهم عن المنطقة، وأشعلوا الثورات في عهد المماليك والعثمانيين والاستعمار الفرنسي، كما قاتلوا "الإسرائيليين" فكانوا من أوائل المنتصرين عليهم.
يسرد المحقق في تاريخ جبل عامل الدكتور محمد كوراني، في كتابه "الجذور التاريخية للمقاومة الإسلامية في جبل عامل"، مراحل المقاومة التي خطّها العامليون بدمائهم ضد الغزاة، ويقول: "إن انطلاق المقاومة الإسلامية، عبر التاريخ، من المبدأ العقائدي والتشريع خير دليل على نصاعة هذه المقاومة واستمراريتها، والتي تجلّت بمقارعة الأعداء في زمن الصليبيين والحكم الاقطاعي والاستعمار الفرنسي، وما تزال ضد الصهاينة.. فمدينة صور صمدت أطول مدة في وجه الغزو الصليبي (25 عامًا) في زمن حكم القاضي الفقيه والعالم الديني العاملي ابن عقيل".
أما المؤرخ الدكتور حسن الأمين يبيّن أن: "الانعطاف الأكبر، في تاريخ جبل عامل، باتّجاه التحرير هو ما نشأ عن معركة حطّين في تموز 1187م. وما حدث كان أكبر بكثير من نصر عسكريّ، فهذه المعركة لم تتمخّض عن قتل قادة وأسر آخرين فقط، بل أنهت مملكة القدس التي استمرّت 84 عامًا، كما تركت إمارات ومعاقل الصليبين في جنوبي الشام، ومنه جبل عامل، جسمًا مشلولًا عاجزًا عن الدفاع عن نفسه، فتهاوت قلاعه الواحدة تلو الأخرى، وغدت المنطقة الممتدّة من عكّا إلى صيدا محرّرة، ولم يبقَ بيد الصليبيين سوى مدينة صور.. والفضل يعود في ذلك إلى المشاركة الفعّالة للعامليين في هذه المعركة بقيادة الأمير حسام الدين بشارة، ذلك البطل المجهول الذي اكتسب آنذاك موقعًا مهمًا جدًا لدوره ودور عسكره المتميّز في الجهاد؛ حيث كان يعدّ أعلى الأمراء شأنًا والمُقدّم على أمراء صلاح الدين كافة".
في مراحل الصراع والتعرض للاعتداءات؛ كان الزعماء والحكام يلوذون بالعلماء لأخذ آرائهم ومشورتهم والعمل بصواب فتاواهم وحكمتهم. ولم يتوانَ المتصدرون منهم لعقد المجالس الحربية في وقت الشدة لاتخاذ قرار الدفاع عن البلاد؛ إذا ما تعرضت للعدوان. وفي ذلك أمثلة كثيرة. فعندما تعرض جبل عامل للهجوم من الوالي العثماني عثمان باشا، استدعى الشيخان العامليان، الشيخ ناصيف النصَّار والشيخ علي الفارس حاكما جبل عامل آنذاك، العلماء وعقدوا ديوان مشورة فقرروا في فتوى الحرب والدفاع حتى آخر نفس في حياتهم؛ فبدأوا الهجوم وحققوا النصر على عدوهم في معركة كفر رمان في النبطية في 30 آب 1771م.
أما في زمن الطاغية أحمد باشا الجزار، والذي احتل جبل عامل عنوة بعد استشهاد الشيخ ناصيف النصَّار في معركة يارون سنة 1780م، يشير الدكتور كوراني الى أن "العامليين تداعوا في سنة 1783 إلى اجتماع عقد في بلدة شحور وأجمعوا على الكفاح، فشكلوا الفرق -كانت تسمى "عصابات"- وكان مدير شؤون هذه الثورة الشيخ علي الزين. وراحت فرقة منها تهاجم جيوش الجزار الطاغية وتوقع فيها الخسائر. وعلى الرغم من استشهاد زعيم الثورة الشيخ حمزة النصار؛ ظل الثوار متغلغلين في بطون الأودية يشنون الغارات، وكانت حرب العصابات هذه قد شملت بلاد عكا وصفد امتدادًا من جبل عامل".
في عهد إبراهيم باشا المصري؛ نقم السكان على حكمه لاستعماله الشدة في جمع الضرائب وجمع السلاح وتجنيد الشبان وفرض السخرة؛ فاندلعت الثورات في بعلبك وجبال العلويين ووادي التيم وحوران وفلسطين وشمالي لبنان، لكن أعنفها وأشدها كانت ثورة جبل عامل، والتي قادها الإخوان الشيخ حسين شبيب علي الفارس وأخوه الشيخ محمد علي في حرب عصابات استمرت من العام 1836 حتى العام 1839.
عندما انتهت الحرب العالمية الأولى، في العام 1918، بهزيمة الدولة العثمانية احتلت فرنسا وبريطانيا هذه البلاد، فقام السيد عبد الحسين شرف الدين بإعلان الثورة المسلحة في جبل عامل ضد المستعمرين والمحتلين الصهاينة من على منبر مؤتمر وادي الحجير، والذي ترأسه في 24 نيسان 1920. أفتى في ذلك اليوم بالجهاد ضد المستعمر؛ فحكموا عليه بالإعدام وطاردوه، ولم يتزحزح عن مواقفه المبدئية قيد شعرة، وكان قوله دائمًا: "إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحمُ.. فلا مشت بي في طُرق العُلا قدمُ".
ثقافة أهل المقاومة هذه استمرت منذ أن وطأت قدم الصهاينة أرض فلسطين، وتجسدت في محطات كثيرة، حيث تصدّى العامليون، وبمساندة من كثير من اللبنانيين لا سيما أبناء بعلبك الهرمل، للاجتياح الإسرائيلي في العام 1982. ومن بعدها اندلعت انتفاضة عاشوراء في النبطية في 16 تشرين الأول 1983، أحرق فيها المنتفضون جميع سيارات الدورية الإسرائيلية. وفي 26 شباط في العام 1999، نزع مئات الطلاب الجامعيين العزّل الأسلاك الشائكة التي وضعها الاحتلال الإسرائيلي حول بلدة أرنون الجنوبية، حين ضمتها إلى الشريط الممتد، في ظاهرة فاجأت الداخل والخارج. كما أدت نساء عدد من القرى الجنوبية دورًا في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية، إذ استخدمن الزيت المغلي في بلدة معركة، وسكبنها على رؤوس الجنود الذين اعتادوا اقتحام البيوت. وانطلاقا من هذه البلدة، توسعت رقعة التحرير لتشمل 6 قرى مجاورة.
لقد كانت المفاجأة الكبرى يوم قام أهالي الجنوب، في 21 أيار 2000، باجتياح بشري مدعوم من المقاومة لتحرير قراهم المحتلة، فلم تمنعهم الاعتداءات والقصف الذي قامت به قوات الاحتلال من التقدم.. وبدأ التحرير؛ حيث دخل الجنوبيون عبر مَسيرات في مشاهد أذهلت العالم بما جسدته من شجاعة وإرادة في التصميم على التحرير، ومن مشاهد ذل وخوف عند الصهاينة وعملائهم الذي فروّا هائمين على وجوههم. وتكررت هذه المشاهد يوم سجلت المقاومة انتصارها على "إسرائيل" في حرب تموز 2006.
الحدث نفسه؛ عاد ليتكرّر في 26 كانون الثاني 2024 عندما استفاق اللبنانيون على انتفاضة شعبية عارمة تمثلت باقتحام أهالي الجنوب العزل كل الحواجز التي تفصلهم عن قراهم وبلداتهم المحتلة، فتمكّنوا من تحرير 18 قرية؛ فسارع الجيش اللبناني إلى مؤازرتهم وانتشر داخلها، فعجزت قوات الاحتلال الإسرائيلي عن صد هذا الهجوم الشعبي على الرغم من إطلاق النار بكثافة، واستشهاد 22 مواطنًا وجرح اكثر من 120 آخرين. وعلى الإثر؛ أصدر رئيس الجمهورية العماد جوزف عون بيانًا قال فيه: "إلى أهلنا الأعزاء في جنوب لبنان؛ هذا يوم انتصار للبنان واللبنانيين، انتصار للحق والسيادة والوحدة الوطنية.. وإنيّ إذ أشارككم هذه الفرحة الكبيرة".
وعليه، فإنّ مقاومة أهالي جبل عامل لأي محتل أجنبي والذود في الدفاع عن الوطن والأمّة أصبحت ثقافة حياة لديهم؛ توارثوها عن أجدداهم، ورسّخوها بدماء الشهداء الأبطال؛ ليس آخرهم شهداء على طريق القدس.