أوراق سياسية

في الخيام... الكل استشهد

post-img

الأمجد سلامة (الأخبار)

"تسير إلى الموت وحدك طوعًا  ويصنع موتك فينا انتصارًا".

فلنتصوّر رجلًا يجلس وحيدًا تحت شجرة تقيه الشمس والمسيّرات وهو يحاول أن يقنع نفسه أنه بحاجة إلى بعض الراحة، كي لا يعمل بنصيحة من ضمّدوا بعض جراحه. وهم الذين كانوا قد أخبروه بأن وقت رحيله قد حان وأنّه قد أدى تكليفه على أتم وجه، وهو الوحيد بين رفاقه لم يستشهد. هي بعض راحة يأمل أن تخرجه من سوريالية المشهد، مشهد مجموعتين مكونتين من عشرات الشباب الآتين من الخطوط الخلفية ليبدّلوا مع المجموعة التي لم يبق منها إلا هو، مقبلين عليه حين ظنّ أن الأرض باتت محروقة وأن مسافة زمن قصيرة تفصله عن اللحاق بالرفاق.

هي بعض الراحة التي سمحت له بأن يشاهد هؤلاء العشرات يتسلقون التلة برشاقة، وكأنها ترتفع بضع خطوات، ويدخلون القرية المدمرة عن بكرة أبيها، ويتموضعون تحت وبين الركام. هي بعض الراحة أتاحت له أن يشهد المعركة تُفتح من جديد؛ العشرات يفتحون النار والعدو يغير عليهم بالطائرات الحربية والمسيّرة، فتتراءى له الأجساد تتطاير عن بعد مئات الأمتار. فينهي استراحته ويمضي بعيدًا ويمنّي النفس بأن يعود إلى الخطوط الأولى علّه يلتحق برفاق مجموعته في يوم آخر.

هذه الكلمات ليست مقدمة قصّة قصيرة، ولا محاولة لتأليف قطعة من الأدب المقاوم لتُنشر على وسائط التواصل الاجتماعي. هذه قصّة حدثت في يوم من شهر تشرين الأول 2024 في قرية عاملية صغيرة تقع على حدود فلسطين المحتلة. هذه قصّة من آلاف القصص التي يمكن أن تُجمع في مجلدات تحفظ أسطورة المقاومين، الشهداء منهم والأحياء، الذين خاضوا حرب "أولي البأس"، وقبلها معركة الإسناد في "طوفان الأقصى". وقد تريّثت لشهرين قبل كتابة هذه المقالة لأنني أردت أن أسمع أكبر قدر ممكن من قصص المقاومين عن المواجهات والشهداء، علّني أفهم كيف خيضت هذه الحرب وما اختلج قلوب المجاهدين أثناء قيامهم بمهماتهم في الخطوط الأمامية والخلفية. ويمكن القول بكلّ ثقة إن هذه كانت حربًا نخبوية، خاضتها نخبة النخبة من اللبنانيين.

وفي محضر حرب "أولي البأس"، دعونا من الصورة النمطية التي تقفز إلى مخيّلتنا، حين نستذكر مصطلح "النخبة". فلننطلق في شرح المصطلح إلى صورة أكثر بساطة، حيث النخب هم الأفراد الذين يتمتعون بمستوى وعي سياسي يمكّنهم من الخوض في العمل السياسي بشكل فعال، مع إدراك ذاتي لتعقيدات المشهد الذي تفرضه بيئة العمل السياسي.

وفي الحديث عن النخب تكون عملية تحصيل الوعي السياسي لبّ الموضوع. في الحقيقة يمكن النظر إلى "الوعي السياسي" على أنّه سلعة أو منفعة عامة وجماعية، يحتاج تحصيله إلى إمكانات على مستوى الفرد. وهذه الإمكانات تتمحور حول توافر موارد محدّدة، منها الوقت ومنها الموارد المادية. عمليًا هذه الموارد تتوافر لنوعين من الأشخاص، الأول هو الشخص الميسور والقادر على تخصيص الوقت وتتوافر عنده القدرة المادية.

أما النوع الثاني فهو الشخص الذي يتلقى دعمًا من جهة ما، تتكفل بدفع ثمن وقته وتؤمّن ما يحتاجه من موارد مادية. لذا يمكننا أن نقول إنّه يجب النظر إلى العمل السياسي وتحليله على أنّه استثمار، يتطلب تخصيص وقت وموارد مادية لممارسته بمستوى وعي مرتفع. وعليه، فإن عملية بناء النخب السياسية عملية مكلفة، فإما تقوم بها أحزاب شعبية جادة، أو منظمات ومؤسسات. والأخيرة تقوم بذلك عن طريق مجموعة أدوات ومنح تربوية أو مهنية.

من يجالس المقاومين يلمس بشكل مباشر أنّ المقاومة قد استثمرت فيهم وصنعت من الكثير منهم نخبًا سياسية حقيقية. وفي نهاية الأمر، حتّى الحرب ما هي إلا فعل سياسي عنفي. وسماع قصص المقاومين والشهداء في الحرب الأخيرة، والتي ما زلنا فيها بشكل أو بآخر، لن يزيد السامع إلا قناعة بهذا التوصيف: هم نخب.

فتشريح الدوافع التي حدت بالمقاومين لأن يستمروا في القتال بعد كلّ الضربات التي تلقتها المقاومة في الأيام الأولى من الحرب، يظهر لديهم مستوى من الوعي السياسي الفردي والجماعي، يغيب عن معظم النخب اللبنانية الأخرى. ونظرتهم العالمية للأمور شاملة، لا تغفل عن أي مستوى من التعقيد في المشهد الشاخص أمامهم. وهنا، على الهامش، إذا ما دققنا في الحالات التي طفت حول المقاومة في العقدين الماضيين، بإمكاننا بكلّ سهولة غربلة من كانوا يدّعون "النخبوية المقاومة". بينما هم في الواقع كانوا بعيدين كلّ البعد عن المباني التي أسست المقاومة عليها الوعي السياسي لدى عناصرها، حتّى إن بعض هؤلاء المدّعين سقط في أفخاخ أجهزة أمنية إفريقية والبعض الآخر بدأ عملية الانتقال إلى الضفّة الأخرى.

وهنا قد أنصحكم بأن تأخذوا قرارًا بالقيام برحلات إلى قرى عاملية وبقاعية مختلفة لتلمّس الواقع على الأرض بين المقاومين. يندر أن تجدوا مقاومًا يرى أن المقاومة قد هُزمت. وهؤلاء يعترفون، بواقعية، بحجم ما وقع من ضربات كبيرة، وخصوصًا في الأيام الأولى من الحرب، إلا أن إجماعهم سيكون أن هذه الضربات لم تؤد إلى هزيمة عسكرية.

علمًا أن هكذا تحليلات لا تخرج من أفواههم وليدة تعاميم تنظيمية، بل نتيجة وعي سياسي طابعه نخبوي، يسمح لصاحبه بحساب الربح والخسارة ضمن أطر حقيقية وواقعية.

عمليًا، أدت أحداث الأيام الأولى من الحرب إلى تغيير أطر حساب الانتصار والهزيمة. وهذا واقع شكّلته مجموعة من الأعمال - الأدوات التي استخدمها العدو، ومنها الاغتيالات والعمليات الأمنية والتدمير المادي للموارد العسكرية والمدنية. ولكل أداة من هذه الأدوات هدف يجب تحقيقه. فمن البديهي أن يكون ضمن الأهداف إفقاد قيادة المقاومة التحكم والسيطرة وتخفيض الفعالية القتالية عند مجموعات ووحدات المقاومة (إن لم نقل تدميرها كليًا) وتحييد القدرات العسكرية القادرة على إيذاء العدوّ برًا أو في ساحته الداخلية وتفكيك البنية السياسية والاجتماعية المحيطة بالمقاومة.

من هنا يمكن أن نسأل: هل حقق استخدام هذه الأدوات تلك الأهداف؟

الإجابة الواضحة هي أن النجاح في تحقيق هذه الأهداف لا بد أن تكون نتيجته دخول الدبابات الصهيونية إلى العاصمة بيروت، كما في عام 1982. بينما الواقع دلنا أنّه، حتّى آخر يوم من الحرب، كان جيش العدوّ لا يزال يحاول اجتياز خط القرى الأول على الحدود مع فلسطين، ولم يكن قادرًا على التثبيت في أي من هذه القرى.

في أذهان المقاومين لا مكان لتصوّر أن نتيجة الحرب كانت هزيمة عسكرية. أما تقييم نتائج الحرب على المديين المتوسط والطويل فيُقاس وفقًا لأطر جديدة، عبر التصدي لما يريد العدوّ تحقيقه من أهداف معلنة على ألسنة قادته، سواء أثناء الحرب أو بعدها. وهنا يجب الالتفات إلى ما يجاهر به العدوّ من هدف تفكيك البنى السياسة والاجتماعية المحيطة بالمقاومة.

علينا أن نوطّن أنفسنا مع واقع المرحلة الحالية، لأن طابعها الأساسي يتعلق بقرار الولايات المتحدة، إدخال منطقة غرب آسيا في لعبة صفرية. ويمكن القول إن قرار شن الحرب على لبنان هو أحد المؤشرات على التحول إلى مستوى الصراع الصفري. وبسبب الحرب، تبلورت مجموعة أولويات أميركية، فيها تدمير عوامل القوّة العسكرية لدى المقاومة، كذلك تدمير عوامل القوّة الاجتماعية والسياسية. هذا الواقع يحتّم علينا التفكير ضمن إطار أوسع للصراع، وهو إطار فُرض علينا.

إضافة إلى ضرورة مراكمة القوّة العسكرية وترميمها، أصبح لزامًا الدفاع عن قدرات التعبئة الاجتماعية والسياسية لدى المقاومة ومشروعها. ومن هنا يمكن أن نفهم أهمية مشاريع إعادة الإعمار وإحياء الدورة الاقتصادية في المناطق المتضررة من العدوان. كما يمكننا أن نقيّم وزن نجاح هذه المشاريع من عدمه في قياس الانتصار أو الهزيمة على المديين المتوسط والطويل الأمد ضمن اللعبة الصفرية الأميركية.

يجب أن يعي أهل المقاومة أن الأيام والأشهر المقبلة ستشهد الكثير من المحاولات التي تهدف في باطنها إلى تدمير عناصر التعبئة الشاملة. وعليهم الاستعداد لمواجهة الأدوات الخشنة والناعمة التي ستستعمل في سبيل تدمير هذه العناصر.

وما سيلمسه الجميع، وأهل المقاومة خصوصًا، هو محاولة تفكيك الشبكات الاجتماعية المحيطة بهم. ولن يُصدموا عندما يرون أن من سيحاول تنفيذ هذه المهمات سيكون من أبناء وطنهم، وعبر أدوات رسمية مرتبطة بمؤسسات الدولة اللبنانية التي ستتحول إلى ساحة صراع مع الولايات المتحدة. صراع عنوانه "هل الولايات المتحدة راع أم عدو مستعمر؟"، وصلبه هو محاولة الولايات المتحدة الإطباق على كلّ مفاصل الدولة لتستعملها في تدمير كلّ ما تراه عنصر قوة للمقاومة.

خلال العملية البرية التي استمرت 57 يومًا، لم يتمكّن العدوّ من احتلال مدينة الخيام، رغم إعلانه أن احتلالها هدف رئيسي لهذه العملية. واستمر يقاتل على أطرافها حتّى آخر أيام الحرب. في هذه المعركة قاتلت واستشهدت نخبةُ النخب من اللبنانيين، ومنهم من دخلها، خلال الحرب، وهو يعلم أن فرص خروجه منها على قيد الحياة ضئيلة جدًا. وبعد انسحاب العدو، كانت مواضع جثامين الشهداء شاهدة على أن العدوّ لم يتقدّم إلى حيّ أو شارع من المدينة إلا وكانوا قد قاتلوه فيه حتّى الرمق الأخير، لم يمر إلا على أجسادهم الممزقة بغارات الطائرات. القادم من الأيام يستدعي تعبئة أهل المقاومة ليخوضوا الصراع على مستوى المجتمع والدولة، بعيدًا من أي نخب زائفة. صراع صفري مفروض علينا من قبل أعدائنا. وأمام ما قدّمته نخبنا في الحرب، لا حجة حقيقية تُساق للتقصير في خوض هذا الصراع. في النهاية، في الخيام الكل استشهد.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد