أوراق إعلامية

الصهيونية تنخر جسم الإعلام البريطاني

post-img

علي عواد/ جريدة الأخبار

تحت وقع الحرب، يروي أطفال غزة قصصهم في وثائقي ينقل تفاصيل الحياة اليومية في ظلّ الخراب والدمار. لكن بعد حملة قادها صحافي صهيوني، حذفت bbc الفيلم

في 17 شباط (فبراير) الحالي، عرضت هيئة الإذاعة البريطانية «بي. بي. سي» وثائقيًا بعنوان «غزة: كيف تنجو من منطقة الحرب؟»، يقدم صورة مؤثرة عن الحياة اليومية في القطاع خلال حرب الإبادة الإسرائيلية.

الفيلم، الذي أخرجه جيمي روبرتس ويوسف حماش، يعتمد على لقطات مصوّرة من داخل غزة بواسطة فريق محلي مكوّن من المصورين عمار الفيومي وإبراهيم أبو عيشة.

يركّز الوثائقي على الأطفال الذين يعيشون في ظل الدمار والخوف المستمر، ويعرض قصصهم في مواجهة الأهوال. من بين هؤلاء عبد الله اليازوري، البالغ 14 عامًا، الذي يروي للمشاهدين باللغة الإنكليزية ويصف مشاهد الدمار في خان يونس، وريند ذات العشر سنوات التي تدير قناة طبخ على تيك توك لتخفيف التوتر، وزكريا، البالغ 11 عامًا، الذي يتطوع في «مستشفى الأقصى» لمساعدة الجرحى.

ينقل الفيلم معاناة هؤلاء الأطفال وصمودهم في وجه آلة الموت الإسرائيلية. نشاهد، بكل أسى، كيف يبدو هؤلاء الأولاد واعين للحظة، يتحدثون ويفكرون كمن هم في الأربعين من عمرهم، وكيف يذكّرون أنفسهم طوال الوقت بأنهم اعتادوا على أصوات القنابل التي تلاحقهم، وتهجّرهم، ثم تعود لقتلهم.

بعد ساعات من عرض الوثائقي، بدأت حملة على منصة «إكس» قادها ديفيد كوليير (@mishtal)، وهو صحافي استقصائي بريطاني قضى 19 عامًا في الكيان العبري بين عامَي 1987 و2006. يصف نفسه بأنه صهيوني، ويركز على دراسة «معاداة السامية» داخل الأنشطة المناهضة للصهيونية، وقد حصل على «تقدير دولي» لجهوده في هذا المجال. في العام 2017، اختارته مجلة Algemeiner كواحد من «أفضل 100 شخص مؤثرين بشكل إيجابي في الحياة اليهودية». يملك كوليير أيضًا موقعًا إلكترونيًا يحمل اسمه ويتلقى التبرعات المالية عبره لقاء جهوده في حماية السردية الصهيونية.

صحافيون في bbc و«سكاي نيوز» وITN و«الغارديان» و«التايمز» يبقّون البحصة: قيود أمام تقديم صورة متوازنة عن القضية الفلسطينية

«كشف» كوليير أن راوي الوثائقي، الطفل عبد الله اليازوري، الذي قاد المشاهدين عبر مشاهد الدمار وأظهر تجربته الشخصية كضحية للحرب، هو نجل أيمن اليازوري، نائب وزير الزراعة في حكومة «حماس». وانطلق من هذه النقطة ليقول إن عدم الإفصاح عن هذه الخلفية يُضعف مصداقية الوثائقي، واصفًا إياه بـ«بروباغندا حماس». وانضم إلى كوليير الكاتب والمذيع البريطاني الحائز جائزة «هرتزل» (التي تُمنح سنويًا من قبل إدارة الأنشطة الصهيونية في المنظمة الصهيونية العالمية WZO)، إضافة إلى عدد من المديرين التنفيذيين السابقين في «بي بي سي»، ولا سيما داني كوهين (شخصية بارزة في المجتمع اليهودي في لندن).

على إثر ذلك، حذفت «بي. بي. سي» الوثائقي يوم الجمعة الماضي بعد عرضه مرات عدة، وقرّرت تعليق عرضه موقتًا وإجراء تحقيق داخلي.

دافع «المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين» عن الفيلم، مشيرًا إلى أن خلفية والد عبد الله لا تُقلل من صدقية التجارب الإنسانية في الوثائقي، وأنّ التركيز يجب أن يبقى على معاناة المدنيين، بمعزل عن انتماءاتهم السياسية. كما أعلنت وزيرة الثقافة البريطانية ليزا ناندي أنها ستناقش القضية مع «بي. بي. سي» بشأن كيفية اختيار الشخصيات المشاركة في الفيلم، مؤكدة على ضرورة تحقيق التوازن بين تقديم القصص الإنسانية والالتزام بالشفافية الإعلامية.

الحديث عن خلفية والد عبد الله محاولة رخيصة لنزع الشرعية عن شهاداته. لا شيء يبرر تجاهل تجربة إنسانية بسبب نسبه، كأن الألم يخضع للمحاكمات العائلية. هذا المنطق نفسه الذي استخدمه الاحتلال لقتل العائلات في غزة، بحيث صار الأطفال أهدافًا بحكم ولادتهم في أماكن معينة أو لأشخاص محددين. غزة كلها تحولت إلى سجن مفتوح، وملايين الناس هناك محاصرون منذ 19 عامًا، لكن الإعلام الغربي يتجاهل هذه الحقيقة أو يبررها بسرديات جاهزة. لا أحد يمكن أن يُحاسب على أفعال غيره، لكن هذا لم يمنع الاحتلال من هدم البيوت فوق رؤوس أهلها بحجة أنهم على صلة بشخص مطلوب.

المثير للريبة هو توقيت عرض الوثائقي بعد انتهاء الحرب على غزة، كأنه محاولة متأخرة من «بي. بي. سي» لتحسين صورتها أو تقديم نوع من التوازن بعد أشهر من الانحياز الصارخ في تغطيتها الإعلامية. هذا التأخير لا يمكن فصله عن السياق الأوسع لانحياز الإعلام البريطاني، الذي كشفته تحقيقات مثل موقع Declassified UK، إذ كشف الصحافي حمزة يوسف عن تحيز مؤيد لإسرائيل داخل كبرى المؤسسات الإعلامية البريطانية، بعدما تحدث عدد من الصحافيين العاملين في «بي. بي. سي»، و«سكاي نيوز»، وITN، «الغارديان»، و«التايمز» عن القيود الصارمة التي تعرقل محاولاتهم تقديم صورة متوازنة عن القضية الفلسطينية.

يصف أحد الصحافيين في «التايمز» كيف كان يذهب إلى الحمام ويبكي من الإحباط، بعد محاولاته الفاشلة لإدخال تغطية أكثر إنصافًا لما يحدث في غزة. كانت مهمته الصحافية تتحوّل إلى معركة يومية ضد الرقابة غير المعلنة، وكيف يجري تعديل صياغة التقارير لتتماشى مع السردية السائدة. يقول: «كنت أحاول نشر تقارير عن حقيقة ما يجري، لكنني كنت أواجه جدارًا من المقاومة داخل المؤسسة. كنت أشعر أنني أعيش في عالم موازٍ حيث الحقائق لا تعني شيئًا إذا لم تخدم الخط التحريري».

في «سكاي نيوز»، يؤكد أحد الصحافيين أنّ السياسة التحريرية للقناة تفرض معايير مزدوجة عندما يتعلق الأمر بتغطية الجرائم الإسرائيلية. يوضح أن القناة لم تكن تجرؤ على نشر أي خبر عن مجازر الاحتلال من دون انتظار تصريح رسمي من الاحتلال، في حين أن الروايات الأوكرانية حول الحرب مع روسيا تُنقل كما هي، من دون الحاجة إلى تأكيد روسي. يقول: «كنا نشاهد الصور القادمة من غزة، الدمار، القتلى، الأطفال المدفونين تحت الأنقاض، ومع ذلك لم يكن يُسمح لنا باستخدام لغة توصل حجم المأساة.

كنت أتساءل: لماذا علينا انتظار تصريح الجيش الإسرائيلي لنخبر المشاهدين بما نراه بأعيننا؟» في «بي بي سي»، كان الأمر أكثر تعقيدًا، إذ تحدث صحافيون عن حظر فعلي لاستخدام كلمة «إبادة جماعية»، رغم أن منظمات حقوقية دولية، مثل «منظمة العفو الدولية» وخبراء الأمم المتحدة، أكدت أن ما يجري في غزة يرقى إلى الإبادة الجماعية.

يقول أحد الصحافيين السابقين في المؤسسة: «أي ضيف يجرؤ على استخدام هذه الكلمة يجري إسكاته فورًا، إما عبر المقاطعة المباشرة أو بقطع الصوت. كنا نشاهد المسؤولين الإسرائيليين يتحدثون بحرية، يبررون القتل والتجويع، في حين أنّ أي صوت فلسطيني كان يُعامل كأنه يطرح رواية مشبوهة».

إنه لأمر مؤسف حقًا أنّ مؤسسات إعلامية عريقة، تنحدر من دول استعمرت الكوكب ذات يوم، تخشى اتصالًا من مسؤول إسرائيلي، فتُعيد صياغة الحقائق، وتُخضع خطابها لموازين القوى السياسية بدلًا من الالتزام بالموضوعية والمهنية.

هذه المؤسسات، التي لطالما قدمت نفسها على أنها معاقل لحرية الصحافة والاستقلالية التحريرية، تثبت اليوم أنها ليست سوى أدوات ناعمة في خدمة سياسات الدول التي تموّلها أو تحمي مصالحها. من المفارقات أن الإعلام البريطاني، الذي غالبًا ما ينتقد تحكم الأنظمة الاستبدادية في وسائل الإعلام في دول الجنوب العالمي، يعيش نوعًا آخر من الرقابة، لكنه أكثر دهاءً وخبثًا: رقابة غير معلنة، لكن حاضرة في كل اجتماع تحريري، في كل اختيار للعناوين، وفي كل جملة تعدّل لتتناسب مع السردية الصهيونية.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد