بول مخلوف/ جريدة الأخبار
مَن منّا يتذكّر الأخت مايا زيادة؟ لعلّ السؤال الأدقّ: من منّا نسيَ الأخت مايا زيادة؟ الراهبة التي رُشِقت بالحجارة في الماضي القريب تنديدًا بالخطيئة التي ارتكبتها. خطيئة الأخت مايا كانت تعويم المحبّة الكامنة في الكتاب المقدّس: إخراج المحبة التي دعت إليها المسيحية من حيّز الكلام إلى واقع الممارسة ومواجهة قساوة العالم بالتعاطف. يعني أن لا تكون الصلاة كتمتمة، أو «خدمة إجبارية» ملقاة على عاتق المؤمن، بل تواصل روحي عمودي، وإمداد معنوي أفقي يروم من نحبهم، وخصوصًا لمن يحتاجون إلى «رعاية ربّانية» لأنهم يدافعون عن أنفسهم لكي لا يصلبوا.
في أحد أيام الأربعاء، جهّزت الأخت مايا زيادة، كعادتها في مثل هذا النهار، موعظتها الصغيرة لتوجّهها إلى طلابها. آنذاك كان العدوان الإسرائيلي على لبنان في أوجه، فما كان منها إلا دعوة تلاميذها، بل حثّهم، على توجيه صلواتهم ودعائهم إلى الجنوب والبقاع، وإلى المقاومين الذين يتصدّون لإسرائيل، إلى «رجال المقاومة».
قوبلت دعوتها في أوساطها بالرفض. لم يستجب الرأي العام ولا «النخب الكاثوليكية» إلى مثل هذا النوع من المحبّة المسيحية؛ «الأغابي» (Agape) وهو الحُبّ المجاني، المستقى من التضحية، ومن الانتباه الحثيث عمن يقدّم العطاء المطلق: الفداء. انتهى الأمر بالأخت مايا منفيةً. فُصِلت مايا زيادة عن المدرسة، وتمّ تجريدها من منصبها بوصفها راهبة تنتمي إلى إحدى الرهبانيات الإيطالية. إذا كان ثمن المحبّة التي تعتنقها الرمي بين الأسود فالموت نهشًا، فهي لا تمانع دفع الكلفة. ثورية في إيمانها إلى هذا الحدّ. هكذا، لم تعد الأخت مايا زيادة، بل صارت الرفيقة مايا زيادة.
على إذاعة «راديو فان» مع الإعلامية هلا حدّاد، حلّت الأخت مايا ضيفةً لإجراء مقابلة صحافية، هي أوّل مقابلةٍ أو إطلالة إعلاميةٍ لها بعد فصلها من المدرسة ومن الرهبنة، أي بعد كل تلك الجلبة الأشبه بالفضيحة.
من امتعض من كلام مايا زيادة هو أوّل المعنيين بالاستماع إلى هذه المقابلة، الحال أنه لا يجب على أحدٍ تفويت هذه المقابلة. نحن أمام درس في المسيحية يستمد تعاليمه من درب الجلجلة. كيف يتشكّل الخلاص بعد المعاناة؟ كيف تكون المعاناة طريقًا نحو الخلاص؟ وكيف تتبدى رمزية النار التي استعان بها القديس لوقا كدلالة على الثورةِ والمحبةِ في آن، أي كيف تفسح الثورة المجال للمحبة أن تطوف؟
مايا زيادة ظاهرة مسيحية استثنائية، تُعيد الاعتبار لمن أعادت المسيحية الاعتبار له: الإنسان. مايا زيادة تصقل الإنسان عاليًا لأنه «عين الله»؛ فهي إذ تمتنع عن توجيه أي إساءة لمن تعرّض لها بالأذى، فلأنّها تعتبر أنّ خدش أي إنسان لهو خدشٌ للذات، فأن أؤذيك يعني أن أؤذي نفسي. هنا ينصهر «العقل النظري» مع «العقل العملي».
عند مايا زيادة الإيمان متّصل بالعمل أي بالممارسة في علاقة مدّ وجزر بينهما، ولا ضرورة لتحقير الوجود واعتباره زائلًا، لأن «الدنيوي» متصلٌّ بالبُعد الديني. نحن إزاء عقل ديني يعلي من شأن التجربة. المتديّن من منظاره هو المُحايث وليس الجالس المسترخي منتظرًا غودو أو الوحي؛ المتديّن هو الغارق بالمتاهات، والذي يولّي انتباهه الكامل لكل شاردة ولكل تفصيل، هو الذي يشعر مع «الآخر» وبـ«الآخر»، في أنّ الناظر يتّحد مع المنظور إليه. هكذا ينشأ الإيمان بعد وثبة الضمير، بالأحرى يكون الإيمان بمثابة يقظة للضمير بعد الدهشة الناجمة عن معاينة ألم «الآخر».
وعليه؛ لا يكفي أن تكون إنسانًا بل وجب عليك ممارسة إنسانيتك. هكذا، تهشّم مايا زيادة ما جاء المسيح إلى تهشيمه: العبودية والبغض، وتحيي من جديد أصالة الدعوة المسيحيّة: المحبة والتحرر.
تذكرنا مايا زيادة بالفرنسية سيمون فايل، الفيلسوفة المسيحية الوجودية التي ناضلت مع العمّال، ومع المقاومة الفرنسية بوجه النازيين وتوفيت بسبب سوء التغذية. تدهورت صحة فايل بشدة، لأنها رفضت أن تنام على الفراش إنما على الأرض، ولأنها رفضت أن تتناول الطعام لأن هناك من يجوع.
لقد رأت فايل أنّ ممارسة القساوة على الجسد هو شكل من أشكال التضامن (الصلاة؟) مع المعذبين والكادحين. «أنا أقاوم إذًا أنا موجودة» تقول سيمون فايل. المعادلة ذاتها تصلح مع مايا زيادة أيضًا، كأن المقاومة ليست قيمة جوهرية فقط، بل جوهر الوجود بحد ذاته: تقاوم مايا زيادة القيود التي تأسر الإنسان وتؤطره في هوياتٍ ضيقة وفي علاقات سلطوية هرمية، وتقاوم دوغمائية دينية، ومايا زيادة تقاوم إسرائيل أيضًا.
لم تصبح مايا زيادة راهبة لولا حرب تموز. رائحة الأسيد جراء القنابل الإسرائيلية الملقاة على أرض الجنوب، ورائحة دماء الشهداء وكل ذاك الرُعب والألم أيقظ إيمانها. سمعت نداء الله من هناك، من قرية يارون، في تلك القرية الحدودية بينما كانت تمشي مع أصدقائها في مجموعة «شباب الرسالة».
ستحزم أغراضها بعد سماعها هذا «النداء»، وستسافر إلى أفريقيا حتى تمتحن إيمانها، لكي تستخلص إن كانت هذه «الدعوة» حقيقية أم نتيجة انفعال إنساني. ذاكرة مايا زيادة قوّية وهي تتذكر كثيرًا. الضمير في أعلى مستويات نشاطه. كلما تذكرت أفريقيا في المقابلة، تدمع عينيها. عندما تتحدث عن الشباب اللبناني وطاقاته المهدورة، تدمع عينيها كذلك. مايا زيادة كتلة عاطفة هائلة متفجرة كالديناميت. تتحدث عن الوطن وعن المقاومين من موضع انتمائيّ رهيب، ومن منطلق إيماني مترسخ. المحبة هي الطيف العظيم. إنّها تحسّس وملامسة كل جوانب الوجود ومن ضمنها الأرض والوطن. والظاهر أنّ مايا زيادة لا تروق لها الشعارات المطاطية وتلك الفضفاضة. ماذا يعني محبة الوطن إن لم تفعل شيئًا لهذا الوطن؟
غير أنّ مايا زيادة تفضل التركيز على الجانب الممتلئ من الكأس. هي في حالة من الانتباه التّام إلى المحبة الموجودة عند من يقاوم حرصًا على هذا الوطن، وتركز على كيف علينا مبادلتهم هذه المحبة، وكيف علينا جعلها عائمة.
في خضم الكوارث التي شهدناها، تظهر وجوه كانت مجهولة علينا من قبل، غسان أبو ستة مثلًا، المقاومون الذين استشهدوا وصرنا نعرف أسماءهم بعد استشهادهم، الأخت مايا زيادة، وغيرهم. هؤلاء بمثابة الملائكة على هذه الأرض، حريصون كل الحرص على جعل هذا العالم أفضل، وهم مستعدون للتضحية بأنفسهم.