رامي أبو شهاب/ جريدة القدس العربي
إذا كنت تطمح أن يحظى فيلمك باهتمام، وتغطية إعلامية واسعة، ويُرشّح لجائزة أوسكار، فثمّة طريق مختصر لا يتعلق بالقيمة أو الجودة أو الأصالة، بمقدار ما يتعلق بموضوعه، ونعني المحرقة أو الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية، وما يتعلق بها من حبكات، وقصص، ومُتخيَّل لن تنضب مادته على المدى القريب نظرًا للحاجتين الأيديولوجية والوظيفية.
في هذا السياق يندرج فيلم «الوحشي»(The Brutalist) أحدث أعمال المخرج برادي كوربيت، ومن بطولة أدريان برودي في دور المهندس المعماري اليهودي المجري «لازلو توث» أحد الناجين من المحرقة، غير أن الفيلم لا يكتفي بسرد الحكاية المعتادة عن الناجين، بل يطرح تساؤلات عن السلطة والتأثير والاندماج (ظاهريًا)، لاسيما في ظل العلاقة المعقدة التي تربط البطل بعميل أمريكي ثري يرمز إلى الرأسمالية الغربية المتوحشة.
لا بد مع الإشارة إلى أن الفيلم، عرض لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي الدولي الحادي والثمانين في العام 2024، ونال جائزة الأسد الفضي لأفضل إخراج ما يؤكد نهج القاعدة الذهبية التي تنهض على مقاربة الهولوكوست من أجل أن تتمكن من نيل التقدير، وبعض الجوائز. إذا ما تجاوزنا مؤقتا ثيمة الهولوكوست بوصفها الثيمة الأثيرة لدى صانعي السينما الغربيين، فإن ثمة ملحوظة تتعلق ببطل الفيلم الذي سبق له أن نال جائزة الأوسكار عن فيلم «عازف البيانو» 2002 الذي جسد فيه دور يهودي بولندي يناضل من أجل النجاة في «الجيتو»، وعلى الرغم من تماثل الثيمة العامة، غير أن المعالجة الزمنية تتغاير، فالأول يختبر تجربة النضال من أجل النجاة من الاضطهاد النازي، في حين أن الثاني «الوحشي» يعكس موضوع ما بعد النجاة، وأثر اضطراب ما بعد الصدمة، بالإضافة إلى الاضطهاد الرأسمالي، وقيم الهوية، والانسجام، والوعي بالبنية النفسية من خلال العمارة، ورمزيتها، غير أن كلا الفيلمين يتوافقان على تقديم اليهودي بصورة العبقري، والحساس، فالأول عازف، والثاني معماري.
السردية المستعادة
يسرد فيلم «الوحشي» قصة مهندس معماري ينجو من المحرقة، ويرتحل لأمريكا، وبعد استقراره يتمكّن من إحضار زوجته، وابنة أخيه من أجل تأسيس بداية جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية التي تكمن في وعي الناجين بوصفها ملاذًا للحرية والقيم، غير أن هذا الحلم سرعان ما يتحطم على صخرة الرأسمالية الغربية القاسية، ما يدفعنا لمواجهة قضايا تتعلق بالاغتراب النفسي والاندماج والتكيف بوصفها نسقًا ظاهرًا، غير أن الفيلم يتقصّد حقيقة تمرير رسائل أيديولوجية مبطنة؛ مستغلًا هذا التناقض لإعادة إنتاج الضحية، ولكن الأهم بناء مسوغات لاستلاب أوطان الآخرين، وخلق ضحية أخرى صامتة، غير مُعترف بها. يُبنى السرد على أجزاء متعاقبة، تحمل عناوين تُجسّد التحولات الجوهرية في مسيرة المهندس المعماري، وتبدأ من لحظة استقباله من قبل قريب له متزوج من امرأة أمريكية، في محاولة أولى لخلق مساحة اندماج في العالم الجديد.
سرعان ما يجد المعماري نفسه ـ بواسطة شركة قريبه – منخرطًا في مشروع تصميم مكتبة لرجل أعمال أمريكي، غير أن هذا المشروع لا يلبث أن ينهار تحت وطأة تعقيدات ينتج عنها تخلي القريب عن المعماري لتتخذ الأحداث منحى أكثر قتامة، حين يُتهم المعماري بالتحرش بزوج قريبه الكاثوليكية، وعلى إثر ذلك يطرد، ومن ثم يختبر المعماري حياة التشرد والتسول، بيد أن المفارقة تكمن في عودة الرجل المليونير الذي كان قد كلّف المعماري بتصميم المكتبة، خاصة بعد أن أدرك قيمة موهبته، فيعرض عليه فرصة تصميم مبنى ضخم يحتوي على مجمع متعدد الوظائف، ومن هنا يبدأ فصل جديد من الصراع، حيث تتشابك العلاقة بين الحماية والاستغلال، كما الاعتراف والتهميش ضمن مشهدية تؤسس لحالة من التوتر بين الموهبة، أو الحلم في مواجهة النموذج الرأسمالي.
نتيجة العلاقة الجديدة مع المليونير، تتحسن أحوال المهندس، إذ يتمكن من نقل زوجته من أوروبا إلى الولايات المتحدة بمساعدة صديق متنفذ للمليونير الأمريكي، يعقب ذلك تجاذبات تتعلق بالمشروع والتمويل، وإصرار المعماري على تصميم معين يعكس هوية ما، فيتخلى عن أتعابه من أجل تحقيق رؤيته، غير أن الأمور تتعطل في بعض الأحيان، ومن ثم لا تلبث أن تُستعاد ما يعكس بيان قلق التفكير الرأسمالي القائم على قيمة التكلفة، وهامش الربح والخسارة، التي يرمز إليها المليونير الأمريكي، وغيره من النخب التي يلقي الفيلم الضوء على صيغتها الثقافية، ولكن الأهم حساسية موقفها من الحضور اليهودي، وما يكمن تجاهه من تمثيلات محددة.
الضحية المطلقة
من أجل تخليق نموذج الضحية تبرز بوضوح مشاهد وجه المعماري الشاحب، وجسده النحيل، بالتوازي مع مرض زوجته المقعدة، والأهم صمت ابنة أخيه الاختياري أو الذي يمكن قراءته بوصفه احتجاجًا على قبح العالم، وبذلك يعكس الفيلم الصورة النمطية للناجين من الهولوكوست (الضحايا) حيث تمسي رمزية معينة في وعي المجتمعات الغربية ضمن تشكيل تاريخي لن يتوقف عن استعادته. إن ما يعنينا في الفيلم، مؤشرات ذات بعد أيديولوجي إشكالي، إذ يمكن أن نؤسس له، بتمثل دور الضحية، وبناء مقولات تتصل برسالة أن الجميع يضطهد اليهود، أو أنهم وحدهم ضحية، ولا خلاص لهم إلا بإقامة وطن لهم في فلسطين، ويمكن تبرير هذا النسق المبطن بالفيلم من خلال التأطير الدلالي الذي يُبنى على جزئية العنصرية العرقية كما الدينية، حيث نرى أن المعماري في رحلته للنجاة في أمريكا قد حمل معه ذكريات مؤلمة في معتقلات النازيين، وبناء عليه، ثمة عجز عن تأسيس أي علاقة صحية مع المجتمع الأمريكي في منتصف القرن العشرين، حيث الوحشية الرأسمالية التي تجسدها المدينة الأمريكية، وبيان قيم الفقر، والتشرد، وتمثيلات المسحوقين، فلا جرم أن ينجح المعماري اليهودي بإقامة علاقة صداقة واحدة حقيقية، وتكون مع رجل ملون «افريقي أمريكي» وابنه، حيث يتشاركون رحلة التشرد، كما الإدمان على المخدرات، وبهذا يرغب الفيلم في بيان قيمة الواقع المعادي لليهود، كما أصحاب البشرة السمراء.
تبرز تناقضات تتعلق بشخصية المليونير، وفي بعض الأحيان تختلط الرسائل على المشاهد، فمن ناحية يبدو الإعجاب والتقدير بعبقرية المعماري، ومن ناحية أخرى نرى إشارات تتعلق بالعنصرية، بالتوازي النظرة الدونية من قبل المليونير، كما بعض أفراد عائلته تجاه المعماري اليهودي، وعائلته – كما تعكسها النماذج الحوارية – غير أن هذا يتعضد بنقطتين مركزيتين: الأولى محاولة ابن المليونير التحرش بابنة أخ المعماري، والثانية تتعلق باغتصاب المليونير الأمريكي للمعماري اليهودي في إشارة رمزية عميقة للاستغلال، أو انتهاك الجسد والروح، والأهم بيان التوحش تجاه الآخر ضمن تمثيل رمزي، فقد استغل المليونير واقع المعماري المتردي نفسيًا، وفقدانه للوعي نتيجة المخدرات والمشروب.
تُؤكد تلك العناصر عبر حوار المعماري مع وزوجته من ناحية عكس المزاج العدائي لهم في أمريكا، بمعنى آخر رفضهم لهم، وهذا يشمل زوجة قريبه المسيحية، وعائلة الرجل المليونير، وغيرهم، ما يبرر مقصدية مضمرة تتعلق بأهمية البحث عن وطن حقيقي لهم، ولعل هذا يؤكده تعليق على لسان سارد تاريخي ضمن تكوين وثائقي يذكر أن الأمم المتحدة قد قررت بعد التصويت الاعتراف بدولة إسرائيل سنة 1948، وهذا يتعضد حين تصر ابنة أخيه وزوجها على الهجرة إلى الوطن (الكيان)، غير أن المعماري يرفض ذلك مع شيء من السخرية، إذ يرى أن وجودهم يجب أن يكون في أمريكا، غير أن هذا كان قبل أن يتعرض للاعتداء الذي ينتج عنه تحول عميق في تكوينه وشخصيته. تتكرس صورة الضحية في مشهد حضور زوجة المعماري إلى منزل المليونير متهمة إياه باغتصاب زوجها، في حين تأتي ردة فعل المليونير بالإنكار التام، مصحوبا باتهامها وزوجها بالجحود.
يزداد التوتر عندما يطرد ابن المليونير الزوجة بعنف فتسقط أرضا في مشهد يجسد بعمق محاولات ترسيخ نمط الضحية، وما يترتب عليه من مقاصد موجهة، يلي ذلك اختفاء الرجل المليونير، وعند محاولة البحث عنه داخل المبنى الذي صممه المعماري نسير مع الكاميرا داخل مكان العبادة، حيث تسقط أشعة الشمس المقبلة من زاوية العلية، على الأرض، مكونة شكل الصليب في إشارة رمزية تحمل دلالات تتقاطع مع البنية الفكرية للفيلم حول السلطة، والخطيئة، كما تقاطع القيم الدينية بين البروتستانتية واليهودية.
إن التصميم الذي وضعه المعماري يحاكي في بنيته الإسمنتية الخراسانية، وتشكيله الضخم والبارد، وجدرانه العالية المعتقل الذي كان مسجونا فيه المعماري أثناء الحرب، ولاسيما حين نشاهده – بعد سنوات- في حفل تكريم، وقد أصبح عجوزا يجلس على كرسي متحرك، التكريم والمعرض كان بتنسيق وإشراف من ابنة أخيه التي هاجرت إلى إسرائيل، حيث نراها تقف على المنصة، وفي الخلفية عرض نماذج من تصاميم المهندس، مع تعليق يختص بالحديث عن عبقرية تصاميم المعماري، ولاسيما تصميم مبنى المليونير الأمريكي الذي اكتمل عام 1973، وما يمثله من تكريس للذاكرة والألم الناتجين عن تجربة الهولوكوست، غير أن الإضافة الأهم تكمن في إصرار المعماري على رفع المبنى وجدرانه عبر التضحية بأتعابه المالية، كي تمثل الجدران أملا في الحرية، بالتوازي مع خلق فضاء يتجاوز ضيق السجن والمعتقلات. ومن هنا، يمكننا فهم إصراره وعِناده على تصميم المبنى كما يريد، باعتباره يمثل رؤيته تجاه قيم الاعتقال والتجربة برمتها.
الانتقاء الأيديولوجي
لقد شكلت هذه المقصديات توجيها قوامه تخليق نموذج الضحية، ولكن الفيلم تجاوز ذلك، ولاسيما إذا نظرنا إليه في سياقات الوقت الحاضر. فالفيلم ينصّ على أن اليهود شعب مضطهد من الجميع، حتى في أمريكا، وأنه عانى كثيرًا، وأن الخلاص- وفقا للفيلم- لا يكون إلا عبر إقامة دولتهم الخاصة، وهو ما يأتي على حساب تجاهل أي قيمة أخرى، أو شعب آخر، فقد بُنيت معاناة اليهود على معاناة شعب آخر، طُرد من أرضه، وشُرّد، وعُذّب، وقُتل، واعتُقل الآلاف من أبنائه.
بذلك، ثمة بترٌ ساذج للرسالة الإنسانية التي كان يفترض أن تكون مؤطرة في سياق أكثر شمولية، وإنسانية أو منطقية، لكنها جاءت منحازة تتجاهل الحقائق، مما يعني انتقائية فجة، أو محكومة بمقولات سياسية تُبرَّر بمسوغات إنسانية مشوّهة، حيث اختارت الصمت التام عن الطرف الآخر، أو الضحية الأخرى، ويتجلى هذا في تغييب أي إشارة إلى الشعب الفلسطيني، وبذلك فنحن إزاء مفارقة تبعث على السخرية، ولاسيما حين تسعى السينما الغربية إلى تقديم عمل سينمائي يهجو القيم الرأسمالية، فيتخذ من اليهود نموذج الضحية المثالي، غير أن الخلاص يكون على حساب شعب آخر لا يأتي الفيلم على ذكره، بل عملت على محوه بالكلية من المشهد، وبهذا فإن النهج، على الرغم من جماليته، غير أنه يبقى مفتقرًا للحقيقة، والمصداقيتين: التاريخية والإنسانية.