اوراق مختارة

يوم القدس العالمي .. من خطوة سياسية الى فعل تحرري 

post-img

حسين كوراني

نستقبلُ هذا العام يوم القدس العالمي في وقت تشهد فيه البشرية واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية على مرّ التاريخ بحق شعب أعزل اضطهد على مدى عقود على أيدي أناس لا يعرفون الرحمة أبدًا. إنهم اليهود الصهاينة الذين لم يَسلم الأنبياء والمرسلون من بطشهم وقذارتهم وانحطاطهم الأخلاقي. 

المأساة الإنسانية العميقة التي حلت بفلسطين، خاصة في غزة، خلال السنة والنصف الماضية، هي مثال صارخ ومحزن للانتهاك التاريخي لحقوق الشعب الفلسطيني الصابر والمضحي، وهي خرق لكل القوانين والأعراف الدولية والإنسانية.

ما هو يوم القدس العالمي؟

أطلق الإمام الخميني (رضوان الله عليه) يوم القدس العالمي في آخر يوم جمعة من شهر رمضان المبارك في العام 1979 بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأربعة أشهر، وذلك من أجل استقطاب اهتمام أحرار العالم أجمع بشكل مسؤول إلى القضية الفلسطينية، وجعلها مناسبة مهمة لإعلان التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني المظلوم، والتعبير عن الاشمئزاز من الكيان الصهيوني الغاصب وفضح مخططاته وإدانة داعميه، بالإضافة الى اظهار الجذور الحقيقية لهذه القضية المؤلمة.

إيمانًا بهذه القضية الإنسانية العادلة واستيفاء لحقوق الشعب الفلسطيني وإنهاء لأوسع وأبشع احتلال عرفته الإنسانية، وقف الإمام الخميني (رض) بكل فخر واعتزاز إلى جانب هذا الشعب المظلوم، وحثّ كل المسلمين الى مساعدته ومساندته ولو بالموقف والكلمة.
 
هكذا حَذت الجمهورية الإسلامية الإيرانية حُذو مؤسسها الإمام الخميني (رض)، وركّزت على أهمية القضية الفلسطينية بصفتها القضية الأولى للعالم الإسلامي، مطالبة بضرورة إيجاد حل جذري لهذه الأزمة التاريخية المزمنة التي شكلت جرحًا عميقًا في جسد وضمير البشرية والعالم الإسلامي.

في هذا تكمن براعة الإمام الخميني (رض) في إدراكه للفكرة وتحويلها إلى خطوة سياسية تحررية عملية؛ مستفيداً من القوة المعنوية لتحريك الشعوب ودفعها للنهوض والعمل. هذه الفكرة، أولاً، عالمية المدى لأنها تؤكد على قيمة إنسانية أساسية ومطلقة، ألا وهي مقاومة الاحتلال والظلم؛ وثانياً، دائمة عبر الزمن لأنه ما دام الاحتلال والظلم قائميْن ستبقى المقاومة والنضال ضدهما مستمريْن؛ وثالثاً، فعّالة لأن مرور الوقت أبرز ضرورتها أكثر وعزّز الميل نحوها.

ومن هنا نرى أنه في السنوات الأخيرة وخاصة بعد عملية "طوفان الأقصى"، تحوّلت أيام نهاية الأسبوع في شوارع العديد من الدول الغربية إلى أيام قدسٍ متعددة ومتكررة، ما يعكس في الحقيقة الهدف والفكرة نفسها التي طرحها الإمام الخميني، والتي تحوّلت إلى برنامج للعمل على مستوى العالم.

"طوفان الأقصى"

هذا؛ وبينما أتت عملية "طوفان الأقصى" ردًا طبيعيًا من الشعب الفلسطيني على أنواع الجرائم المرتكبة بحقه والانتهاكات لحقوقه الطبيعية وقتل وقمع أبنائه والإساءة للقدس الشريف والمقدسات الإسلامية، يسعى كيان الاحتلال الصهيوني وداعموه من خلال التركيز على هذه العملية، إلى اتهام المقاومة والشعب الفلسطيني بأنهم من بدأوا الحرب على مستوطنات غلاف غزة، ويحاول هؤلاء بطريقة خرقاء صرف انتباه الرأي العام العالمي عن الحقيقة والجذور الحقيقية للأزمة الفلسطينية، وساعدوا الاحتلال في قتل ما لا يقل عن 50 ألف فلسطيني غالبيتهم من النساء والأطفال الأبرياء.. حتى إن المراكز الطبية والإغاثية والمساجد والكنائس لم تسلم من جرائم هذا الكيان المتوحش. بالإضافة الى منع إيصال المساعدات الإنسانية والمواد الغذائية إلى قطاع غزة بأكمله، ولجوئه إلى تجويع سكانه بهدف مواصلة الإبادة الجماعية بحقهم وتهجيرهم قسرًا إلى صحراء سيناء والأردن، ما يدق ناقوس الخطر لكارثة إنسانية لم يسبق لها مثيل في كل القرون.

ممّا لا شك فيه أن ممارسات الصهاينة هذه يمكن عدّها انتهاكًا لأوضح مبادئ حقوق الإنسان ومثالًا واضحًا على مجموعة مركبة من الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية والفصل العنصري والتطهير العرقي. فمن الضروري اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن تقوم المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة التعاون الإسلامي بدورها الرادع في وقف الحرب.

لذلك؛ لم يعد اليوم يكفي مجرد السعي لتنظيم تجمعات احتجاجية أو إبداء التعاطف مع الشعب الفلسطيني، بل ينبغي توظيف الترحيب الدولي بفكرة يوم القدس العالمي لحث الحكومات في أنحاء العالم على تبنّي إجراءات قانونية واقتصادية ودولية ضد جرائم كيان الاحتلال. وما حصل في كانون الأول/ديسمبر 2023، وبفضل مبادرة جنوب أفريقيا برفع قضية الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين على يد الكيان الصهيوني إلى محكمة العدل الدولية، دعمت دول عديدة من مختلف أنحاء العالم، بما فيها دول غير إسلامية، هذه الخطوة. ويجب أن تستمر مثل هذه الإجراءات بشكل أقوى وأكثر فعالية ومتواصلة حتى زوال الاحتلال.

كذلك ممّا لا شك فيه أنه على الرغم من الظروف الإنسانية المؤلمة وحالة الحرب السائدة في الأراضي الفلسطينية، إلا أن الشعب الفلسطيني المسلم وسكان قطاع غزة والضفة الغربية يقفون بإرادة قوية وإيمان راسخ؛ دفاعًا عن وطنهم وحقوقهم الطبيعية المعترف بها دوليًا، ويواصلون المقاومة ضد كيان الاحتلال المجرم بكل عزيمة. وهم فخورون جدًا بأنهم لم يتركوا وحدهم في معركتهم، بل ساندهم إخوانهم في لبنان واليمن والعراق مقدمين آلاف الشهداء نصرة لغزة، هذا فضلاً عن تدخل إيران وضربها عمق الكيان الغاصب بمئات الصواريخ.

إذًا، يوم القدس العالمي هو فرصة لتفكيرنا في حل حقيقي ومسؤول ومستدام، ويوم التزامنا الثابت بتحقيق العدالة ودعم كرامة وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير؛ هذا الشعب المضطهد الذي عانى عقوداً من الاحتلال الوحشي. فتحرير فلسطين ليس حلماً بعيد المنال، فلا نظام فصل عنصري ولا احتلال عسكري ولا مشروع استعماري يمكن أن يدوم إلى الأبد. وصوت الملايين الذين يتظاهرون في أنحاء العالم من أجل فلسطين شاهدٌ على أن النضال من أجل العدالة حيٌّ ولا يمكن إيقافه، وأن الضمائر اليقظة لن تهدأ حتى تحقيق هذا الهدف الإنساني والأخلاقي السامي.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد