أوراق ثقافية

البذاءة الفنية تبلغ الذروة.. مبدعون في بلاط السفارة

post-img

بول مخلوف/ جريدة الأخبار

بعد مرور عامٍ على انطلاقه، أقامت السفارة الأميركية في بيروت أمسية ختامية لمعرضها «خيط من الأمل» الذي استضاف طوال عامٍ كامل نحو 70 عملًا فنيًا معاصرًا لـ16 فنانًا لبنانيًا يتوزعون بين الفنّ التشكيلي والفوتوغرافيا والنحت.

واجب الطاعة

«خيط من الأمل» الذي انطلق سنة 2024 يُعد خطوة مكملة لـ«مشروع إعارة الأعمال الفنية» الذي حصل في العام 2022، وفيه قدّم الفنانون أعمالهم الفنية حتى تعرض في مقرّ إقامة السفيرة الأميركية ليزا جونسون. حضر الأمسية كل من وزير الثقافة غسان سلامة، ومدير علم الآثار سركيس خوري، وعدد من رعاة الفنّ إلى جانب الفنانين المشاركين. وقد تخلل الأمسية عرض موسيقيّ وكلمة للسفيرة الأميركية ليزا جونسون.

نقلت جريدة «النهار» مقتطفات من كلمة جونسون، أبرز ما جاء فيها قولها أنه: «طوال فترة النزاع، قامت أعمالكم بشيء استثنائي، لقد ألهمتنا، ووفّرت لنا الشفاء والهروب، وذكّرتنا بأحلامنا المشتركة نحو مستقبل أفضل وأكثر إشراقًا». كما اعترفت أنّ «هذه الأعمال الفنية عرضت بفخرٍ على مئات الزوار».

من جهتهم، أبدى الفنانون اللبنانيون امتنانهم للسفيرة الأميركية على استضافتها لأعمالهم، وأثنوا على خطوتها «المشرقة»، كما أعربوا عن شكرهم العميق لهذه الضيافة السخية، وأسرفوا بالكلام المعسول الذي لا يعني شيئًا في جوهره سوى أداء واجب الطاعة.

هل قلت «فترة النزاع»؟

الأعمال الفنية المعاصرة المعروضة في السفارة الأميركية «قامت بشيء استثنائي» فإذًا. لقد ألهمت السفيرة الأميركية ووفّرت لها ولزوّارها «الشفاء والهروب» طوال «فترة النزاع». ومصطلح «فترة النزاع» هو مصطلح «مستعار» ومموه، من شأنه التعمية على حقيقة جلفة من شأن الفنّ المعاصر أنّ يأخذها ثيمةً وموضوعًا له، وهي الحرب، وبعبارةٍ أدق: الإبادة. ما قصدته جونسون بـ«فترة النزاع» هي الفظاعة التي أعقبت السابع من أكتوبر، حيث تشارك الولايات المتحدة الأميركية "إسرائيل" في صناعة هذا الفظيع؛ في ارتكاب الإبادة وفي استمرارها.

هذا فنّ مدجّن

الفنّ اللبناني المعاصر المعلّق على جدران السفارة الأميركية مثلما تعرض الأعمال الفنيّة في المتاحف أو الغاليرهات، عاد مع الفنانين اللبنانيين إلى البذاءة الفنيّة التي جاء الفنّ المعاصر للانعتاق منها.

هذا فنّ معاصر ولكن «صُنِع في لبنان»: مدّجَّن. يتشدّق بالمؤسسات الامبريالية التي ترعاه. يُعرَض في بلاط المستعمرين للزينة ولأغراض برجوازية تخص الرفاهية والتعالي على واقع مأساويّ. إنه يلعب على شاكلة مدارس أخرى كـ«الباروكية» والكلاسيكية، وظيفة تطهيرية بدلًا من كونه تخريبيًا ومشاكسًا، يحث على المساءلة، والخلخلة، والإضاءة على الفجوات.

سفارة الإبادة

هكذا نجده في وصف جونسون بأنه «يشفي»، ويجعل الناظر «يهرب»، أي إنه مريح ويتيح التأملّ، يعني أنه يسمح بالنسيان وبالتكفير عن الآثام بمجرد النظر إلى «جماليته». إنّ الفن اللبناني المعاصر يخلق الراحة عوضًا عن الصدمة، ويجيز التأمل عوّضًا عن الأثر الدامغ الذي يخلفه وراءه عادةً الفن المعاصر. وكأنما لا ينقص هذا الفنّ اللبناني المعاصر إلا لوحة منظر طبيعي لسفارة الإبادة في عوكر.

وسط إبادة عرقيةٍ يشهدها الفلسطينيون منذ أكثر من عامٍ، وحروب تشنّها إسرائيل وأميركا على دول المنطقة، وهو ما تسميه ليزا جونسون بـ«النزاع»، أتمّت هذه الأعمال الفنيّة المعاصرة فإذًا وظيفتها، في الإيهام بأن العالم يبدو بخير كأنّ كل شيء يسير على ما يرام. ليس هناك من خيم تحترق ولا رؤوسٍ تتفجر ولا أطفال يموتون بردًا وجوعًا. إنّ الفن اللبناني المعاصر يشبه الأدوية المضادة للكآبة. لا يعرض الفاجعة ولا يلتفت إليها.

جلّ ما يفعله هو الإلهاء عنها ويتيح التفريغ، ذاك أنه يصافح فاعلها بل يشكّل الماكياج الذي يجمّل القاتل ويؤنسنه. الحال، إنّ الفن اللبناني المعاصر يثير الكآبة.

«الإبداع» في الحظيرة الأميركية

من ضمن أجندة السفارة الأميركية احتواء الأشكال الفنيّة والثقافية التي بوسعها أنّ تكون محرضة على قيم الهيمنة والسياسات الاستعمارية. الفنانون اللبنانيون لا يأبهون بالأجندات ولا برزنامة الأيام. لو كان الأمر بيدهم لتركوا أعمالهم في صالون ليزا جونسون إلى الأبد. هؤلاء «المعاصرون» اعتبروا مبادرة السفارة الأميركية جسرًا ثقافيًّا يربط بين لبنان الذين يمثلونه، كما أفصحوا، وبين مركز صناعة القرار الأميركي. قالوا إنّ حضورهم الفنّي لهو «شكل من أشكال الديبلوماسية»، الفنان اللبناني نبيل بصبوص شدد على أنّ العلاقة بين الفنانين وبين السفارة هي «علاقة مباشرة». وعلى شاكلة هذا التعبير الساذج الركيك، بدت أقوال المعاصرين مضحكة للغاية، لم يكن آخرها زعمهم بأنهم وصلوا إلى «العالمية». لقد كادت وجوه «المعاصرين» تنفجر من فرط السعادة وهم يتحدثون عن أهمية عرض أعمالهم في السفارة الأميركية التي «تشجع» و«تقدّر» الفنّ اللبناني، و«تحرص» على الفنانين اللبنانيين وعلى فنّهم.

الفولكلور اللبناني الرتيب

إنه لبنان الذي يتميّز بتعدده وبتنوعه، والثريّ بثقافته، والقادر على مخاطبة العالم، إنه الفولكلور اللبناني الرتيب، نجد نسخة معاصرة عنه «في خيط من الأمل».

إننا إزاء أسلوبٍ معاصر لم ينفك عن التقليدي بشيء إنما أعيد عصرنتهِ. زُجت هذه الأعمال الفنية داخل السفارة الأميركية لمدة عامٍ وقد أفرج عنها غير أن الفنانين بقوا مأسورين هناك، ولربما فقد أهدوا أنفسهم. لقد كانت أعمالهم «معارة» إلى السفارة الأميركية ضمن معرض «خيط من الأمل»، في حين أنّ الهدف هو أخذ الفنّ المعاصر كرهينة، والحكم عليه بالإعدام من قبل ليزا جونسون وسفارتها.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد