مصطفى عواضة (موقع العهد الإخباري)
في خضم التحوّلات الكبرى، وفيما يتقدّم الذكاء الاصطناعي كقوة تكنولوجية صاعدة تهدد بتغيير وجه العالم، لم يعد الصراع بين الأمم محصورًا بالجيوش الجرّارة أو الأسلحة الفتاكة، بل بات العالم أمام جبهة جديدة، تُدار فيها الحروب بالأرقام والخوارزميات.
من هذا المنطلق، أقام مركز الأبحاث والدراسات التربوية ندوة بعنوان "الذكاء الاصطناعي وتحديات التربية العلمية في تحقيق الأمن المجتمعي"، ليؤكد أن الذكاء الاصطناعي ليس خيارًا تقنيًا، بل ضرورة استراتيجية في معركة بناء مجتمع آمن، وتربية جيل قادر على الإنتاج، لا الاستهلاك؛ على المقاومة، لا التبعية.
في كلمة محورية، أضاء المتخصص بآليات توظيف الذكاء الاصطناعي الدكتور علي أحمد – مدير الإعلام والتواصل في جامعة المعارف – على أهمية الذكاء الاصطناعي كأداة استراتيجية للأمن التربوي والمجتمعي. واعتبر أن الأمن اليوم لم يعد محصورًا في البعد العسكري، بل بات يشمل الأمن الثقافي، السيبراني، النفسي، بل والمعنوي.
وأكد أن الذكاء الاصطناعي ليس أداة محايدة، بل تقنية مشبعة بقيم ومعايير تمليها خلفيات ثقافية غربية، ما يحتّم على شعوبنا إنتاج نماذج معرفية مستقلة، نابعة من هويتنا ومرجعيتنا الإسلامية.
تحوّلات نتيجة استخدام الذكاء الاصطناعي
ومن أبرز التحولات التي أشار إليها الدكتور علي أحمد، الانتقال من نموذج التعليم الجماعي إلى التعليم الفردي التفاعلي، حيث يمتلك كل طالب مسارًا خاصًا به، يُصمم ويُعدّل بناءً على شخصيته وسلوكه ونموه المعرفي والعاطفي.
"هذا التحول يضع تحديًا أمام المؤسسات التربوية، التي لم تعد مسؤولة فقط عن إيصال المعرفة، بل عن صقل الشخصية وبناء الإنسان القادر على المبادرة والفعل"، أضاف المتخصص بآليات توظيف الذكاء الاصطناعي.
وتابع "أما بالنسبة لدور الجامعة، فلم تعد مجرد مصنع للشهادات، بل منصة حضارية لإنتاج القادة والمبادرين. فالرهان اليوم على إعداد طالبٍ يستطيع مواكبة التسارع المعرفي المذهل، لا على تلقين مناهج قد تندثر في غضون أعوام".
الهوية الثقافية في مهبّ الخوارزميات
وحذر الدكتور أحمد من أن الذكاء الاصطناعي، رغم مظهره التقني البريء، يحمل في طياته قيماً ثقافية غربية، تُغرس في الخوارزميات منذ لحظة برمجتها الأولى. وهو ما يهدد تدريجيًا الهوية الثقافية، ويُحدث انفصالاً بين الطالب وتراثه اللغوي والديني.
الرسالة: الذكاء الاصطناعي خيار مقاومة لا تبعية
"إنها ليست رفاهية فكرية، بل معركة وجود. فالذكاء الاصطناعي، إما أن يكون أداة تمكين لشعوبنا أو وسيلة جديدة لاستعمارها. ومن لا يشارك في بناء الخوارزميات، سيجد نفسه محكومًا بها"، يضيف أحمد.
وشدد الدكتور أحمد على أن الذكاء الاصطناعي ليس اختراعًا بعيد المنال، بل أداة بين أيدينا، علينا أن نفهمها ونسخرها لا أن نُستَعبد بها. ومن يفهم المعركة، يدرك أن النصر فيها يبدأ من الوعي، ومن المدرسة.
نحو حلول استراتيجية
في ختام كلمته، قدّم الدكتور علي أحمد جملة من المقترحات، أبرزها:
إنشاء وحدة رصد وتحليل مجتمعي تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
تطوير برمجيات تربوية ذكية تُبنى محليًا.
إدماج الذكاء الاصطناعي في المناهج التعليمية بمقاربة قيمية.
ربط المنصات التعليمية بمرشدين تربويين قادرين على الاستفادة من التحليلات الذكية في التوجيه النفسي والسلوكي.
بدوره، تحدث الدكتور قاسم دنش عن ضرورة الالتزام بالقيم الأخلاقية في استخدام الذكاء الاصطناعي، خاصة في المجال التربوي. حيث أكد على أهمية وضع ضوابط تشريعية تكفل استخدام هذه التقنية بطريقة آمنة وسليمة، مما يحمي الطلاب والمجتمع بشكل عام من المخاطر التي قد تنجم عن استخدامها بشكل غير منظم.
وأشار إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم يتطلب تحليلًا دقيقًا للبيانات التي يتم جمعها، مع ضرورة الحفاظ على خصوصية الأفراد وعدم استغلال معلوماتهم الشخصية بطرق غير أخلاقية. كما طرح مثالاً على كيفية تحليل البيانات، مثل محاولة تحديد اهتمامات الطلاب استنادًا إلى معلومات قد تبدو غير ذات علاقة مثل الطعام المفضل أو المسلسلات التي يتابعونها.
وأوضح أنه رغم قدرة الذكاء الاصطناعي على إجراء تحليلات معقدة، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن هذه التحليلات دقيقة دائمًا، حيث قد تكون مستندة إلى بيانات قديمة أو غير دقيقة.
وأكد الدكتور قاسم على أن التعليم بحاجة إلى إطار قانوني واضح يضمن عدم استغلال الذكاء الاصطناعي في الأغراض غير التربوية أو في تكنولوجيا تجمع بيانات شخصية قد تؤدي إلى التعدي على الخصوصية، كما تحدث عن النمو السريع لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتأثيرها الكبير على المجتمع، مشيرًا إلى التحديات التي تواجهها الدول في مواكبة هذه التطورات.
وطرح الدكتور دنش نماذج وآليات عملية للضبط التربوي والتقني، بما يعزز من دور الذكاء الاصطناعي كأداة فعالة وآمنة في تطوير العملية التعليمية، مبرزًا أهمية الوعي بالحدود الأخلاقية لتوظيف هذه التقنيات في إطار يحترم حقوق الأفراد ويضمن استخدامها في خدمة المصلحة العامة.
وخلص اللقاء إلى النقاط التالية:
- الدور الأساسي للمدرسة: التأكيد على أن الهدف الأساسي للتعليم ليس فقط نقل المعرفة، ولكن أيضًا تربية الطلاب وتنمية قدراتهم الاجتماعية والنفسية. يجب أن يكون المعلم موجهًا ومشرفًا على الطلاب، مما يساهم في تطويرهم من الناحية التربوية والاجتماعية.
- الذكاء الاصطناعي في التعليم: يُطرح تساؤل حول تأثير الذكاء الاصطناعي على العملية التعليمية، وهنا يجب التأكيد على أن التقنيات الحديثة يجب أن تكون في خدمة تحسين التعليم وليس تقويضه. التحدي الأكبر في الوقت الحالي هو كيف يمكن للطلاب الاستفادة من الذكاء الاصطناعي بشكل يخدم تطورهم الفكري والنقدي دون أن يسبب لهم كسلاً ذهنيًا.
- الخصوصية وبيانات المستخدمين: يجب الالتفات إلى أهمية مسألة الخصوصية في عصر الإنترنت، حيث تُجمع بيانات المستخدمين من خلال الهواتف الذكية والتطبيقات المختلفة. هذه البيانات تُستخدم لتحليل سلوكيات الأفراد وتوجيه المحتوى الذي يُعرض عليهم.
يُذكر أنه حتى خدمات مثل يوتيوب وواتساب تستفيد من هذه البيانات لتحليل سلوك المستخدمين وتوجيههم لمحتوى معين.
- الذكاء الاصطناعي في الحروب: يجب التحذير من الاستخدامات العسكرية للذكاء الاصطناعي، وخاصة من قبل العدو "الإسرائيلي" في الحروب، وكيف يتم استخدام البيانات الضخمة (Big Data) لتوجيه المسيّرات والطائرات بدون طيار في العمليات العسكرية.
- التحديات التربوية: دعوة لتطوير أساليب تعليمية تتعامل مع الذكاء الاصطناعي بشكل نقدي وتساعد الطلاب على التفكير بشكل مستقل. أن غياب التفكير النقدي يمكن أن يؤدي إلى الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي دون الفهم العميق للمعلومات.
- الإنتاج والابتكار في الذكاء الاصطناعي: تعبير عن أهمية تحويل التركيز من استهلاك التقنيات الغربية إلى تطوير تقنيات محلية مبتكرة، وتشجيع الشباب على إنتاج الذكاء الاصطناعي بدلًا من مجرد استهلاكه.