اوراق خاصة

في لبنان.. "دولة" عالقة بين "الكيان الوهم" والمقاومة الحقيقة

post-img

محمد الحسيني/ كاتب لبناني

شكّل مصطلح الدولة ومفهومها وتطبيقاتها محور اهتمام منظّري النظم الإدارية والقانونية والاجتماعية وغيرهم من الباحثين، في علوم السلطة والحكم. وما تزال هذه القضية تحمل الكثير من الاجتهادات والنظريات انطلاقًا من ارتباط الدولة الكيان المؤسساتي بمصلحة الإنسان الذي تُبنى عليه ومن أجله الرؤى والمشاريع والتطلّعات المختلفة، بهدف تحقيق الأمن والأمان والعدالة للأفراد والمجتمعات.

لسنا، الآن، بصدد البحث في أنواع الدولة وأشكالها وتطوّرها عبر التاريخ أو انتقالها من حكم الفرد إلى حكم الجماعة وغيرها من العناوين المستطيلة التي تندرج في إطار بحوث فقه النظام، ولكن لا بد من الإشارة إلى مكوّنات الدولة الأساسية تمهيدًا للدخول في صلب الموضوع. وهي بحسب ما يجمع عليه الفقهاء كلهم؛ تتجلّى بثلاثة عناصر هي: الشعب (الناس)، الإقليم (الأرض)، السلطة (السيادة). وهناك من يضيف عناصر يراها مهمة؛ مثل: الحكومة كونها أداة الحكم، والثقافة كونها تشكّل الهوية، والحضارة التي هي صلة التاريخ والمستقبل.

إذا ما نظرنا إلى تطبيق هذه العناصر على بلد، مثل لبنان، نرى أن أيًا منها غير متحقّق، فالأرض غير مصانة وبعضها محتلّ من "إسرائيل" بالقهر والإكراه، والسلطة التي تمثّلها الحكومة منقوصة السيادة في مندرجات كثيرة. أما الشعب؛ فهو مصداق للجماعات المتشرذمة التي لا يجمعها سوى اللغة، فيما تتعدّد انتماءاتها بتعدّد الجهات الخارجية التي تنساق إليها. وهي جهات لم تضع يومًا مصلحة البلد بالحسبان؛ بل كانت مصالحها هي الغالبة دومًا، وتشغّل الجماعات اللبنانية لتحقيق غاياتها وأهدافها.

إن لبنان أبعد ما يكون ليشّكل نموذجًا يستجيب لعناصر تكوين الدولة. وإذا ما اسقطنا الحديث عن خلفيات الواقع الاحتلالي الإسرائيلي وتاريخيته العدوانية، منذ أن زرع الاستعمار بذرته على أرض فلسطين وفي قلب العالمين العربي والاسلامي، فإن البحث سيتركّز في عاملين؛ وهما: أداء السلطة وثقة الشعب بالدولة. وهذان العاملان يحدّدان إمكانات الثبات والاستمرار أو الاهتزاز والاندثار، نظرًا إلى ارتباطهما البنيوي في سياق بناء الدولة وتطوّرها وازدهارها، فلا دولة من دون شعب ولا سلطة من دون رضا الشعب الذي يحق له العيش في دائرة الاقليم الجغرافي للدولة، وهو ينعم بالأمن والأمان والعدالة الاجتماعية.

كما إذا ما استغرقنا أكثر، في تشريح حال لبنان، لرأيناه بلدًا لم ينعم بالاستقرار منذ أن أقرّ نظام "الانتداب" دستورًا له بناءً على إملاءات دولة الاحتلال الفرنسي ودستورها؛ وليس استجابةً لمطالب الشعب اللبناني وتطلعاته في إنشاء كيان دولة مستقلة ذات سيادة كاملة. وعلى الرغم من اعتراف العالم بالدولة اللبنانية الهجينة، ما يكسبها الشخصية القانونية الدولية، إلا أنها عمليًا بقيت خاضعة لنظام تشغيلي فرنسي مباشر وغير مباشر، ثم انتقل إلى النظام الأمريكي مع تحوّلات النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وما فرضه هذا النظام من حسابات إقليمية نشأت بفعل نتائج اتفاقية سايكس – بيكو، والذي قسّم المنطقة إلى دويلات مرتبطة بشكل وبآخر بحسابات الدول الكبرى المنتصرة ومصالحها السياسية والاقتصادية الواسعة.

لم يكن لبنان، يومًا، وطنًا لكل أبنائه وفقًا لما يقتضيه واقع الحال، إلا في حدود النص الدستوري وسجلات النفوس وعبارة "لبناني منذ أكثر من عشر سنوات" على إخراج القيد الإفرادي؛ مع ما لهذه العبارة من استخفاف بالهوية ومضامين تفتح على احتمالات استيطان وتوطين. ولم تستطع الحكومات المتعاقبة كلها من أن تنشئ كيانًا مقبولًا يجمع عليه أبناء البلد.

لا نتحدث هنا عن الاختلاف الطبيعي في الدول الذي يفترض وجود موالاة ومعارضة، في نطاق رؤية كل طرف لشكل الحكم وتطبيقاته، إنما نتحدث عن الشعور الطبيعي الذي يجب أن يساور كل فرد بالانتماء للبلد وتنعّمه بالحقوق الكاملة، فتجعله مستعدًا للتضحية في سبيل بقائه سيّدًا مستقلًا مقتدرًا. وهذا ما يكرّس تبادلية العلاقة في العقد الاجتماعي، بين الدولة والشعب؛ حيث يشكّل العنصران نسيجًا منسجمًا محصّنًا من الاهتراء الداخلي ومن الخطر الخارجي.

إن "الوحش الضخم" أو "التنين البحري"، وفقًا لتوصيف توماس هوبز للدولة، يمتلك قوة القهر والإرغام لضمان الالتزام بالقوانين، ويحتكر وسائل "العنف الشرعي"- كما يرى ماكس فيبر- وهي أداة هيمنة شرعية ملزمة للمواطنين. ولكن لا يمكن لأي دولة أن تكتسب شرعيتها وسلطتها وسيادتها إلا باعتراف الشعب، وبمنحه إياها ثقته الكاملة. ولا يمكن تحصيل هذه الثقة إلا إذا شعر الشعب بأنّ الدولة تعمل لصالحه وليس ضده، وأنها تؤمّن له سبل العيش الكريم، لا أن تفرض عليه قوانين مجحفة تدفعه إلى الانتفاض والاعتراض، وأنها تمارس دورها في السلطة والسيادة ما يحفظ له كرامته وديمومة عيشه، وتضمن له مستقبله، وتستجيب لتطلعاته وطموحاته، والأهم أنها تحميه من أي خطر داخلي أو خارجي يهدد حياته ورزقه.

الدولة هي تجسيد قانوني للأمة ذات السيادة الشاملة والحكومة العادلة، وتتجاوز في شخصيتها المعنوية والقانونية قوالب الجماعات والطوائف، وليست تابعة لأهواء جهة أو حزب؛ بل تطبّق قوانينها بشكل متساوٍ ومتوازٍ على أفراد الشعب من دون تفرقة سياسية أو مناطقية أو مذهبية، ومن دون تأثير أو انسياق لأهداف جهة داخلية أو خارجية ضيقة. وإذا لم يشعر الناس بالثقة تجاه هذه الدولة؛ فستكون بمثابة حكم أفراد أو جماعة على غرار الحكم العائلي أو القبلي. وتاليًا؛ لن تكون كيانًا جامعًا؛ بل عامل تفرقة وانعزال تدفع فئات الشعب المختلفة إلى التناحر والتقاتل كي تحفظ كل فئة وجودها، وتضمن مصالحها بنفسها لنفسها.

تعدّ ثقة الشعب العنصر الأهم في إضفاء الشرعية على أي كيان سياسي مؤسساتي يأخذ شكل الدولة؛ لأنها تُؤشّر إلى درجات رضا الشعب، وقبوله ودعمه للدولة ومؤسساتها القائمة. في المقابل؛ "الوظيفة الجوهرية لسلطات الحكم العامّة هي العمل على زيادة انتشار الثقة المتبادلة، في قلب الكل الاجتماعي"؛ بحسب صموئيل هنتنغتون، وإلا فإنها ستعاني "نقصًا في الولاء الوطني والعام"؛ واستطرادًا ستفقد شرعيتها السياسية..

لا أظننا نرى لهذه الثقة بين الشعب والدولة محلًا في لبنان؛ لا سيّما في الشؤون المتعلقة بالحماية ورعاية شؤون الناس، فلا قدرة لها على تحرير الأرض المحتلة وردع العدوان الإسرائيلي المتمادي على كامل الخارطة اللبنانية، ولا تجرؤ على ردّ الشروط الدولية التي تمنع إعادة إعمار ما هدمته الحرب، ولا تحرّك ساكنًا تجاه بعض الفئات التي تمعن في الخطاب الفتنوي التقسيمي، وتعتدي على كرامات الأشخاص والطوائف، وتروّج للاحتلال وتتبنّى مقولاته وتسوّق لأهدافه، وتدفع لاستعادة الحرب الأهلية وخراب البلد بالدعوة لإقحام الجيش اللبناني في مواجهة مباشرة مع المقاومة وبيئتها، ما يعني مواجهة الطائفة الشيعية تحديدًا.. وهذه الدولة، في الأصل، لا تمتلك القدرة على الدفاع عن الأرض وحماية الشعب، ولا تتبنّى منهجًا يقودها إلى هذا السياق، كما سائر الدول في العالم التي تحترم هويتها وسيادتها.. فكيف يثق بها الشعب!؟

إذ حينما تتخلّى الدولة عن وظائفها ومسؤولياتها تجاه شعبها، بفئاته المتنوّعة الثقافات والانتماءات السياسية والدينية، وتغلّب قرارات ومصالح الخارج على مصلحة أبنائها، بذريعة الضعف ومحدودية القدرة، فليس لها أن تعترض على قيام فئة مقاومة من هذا الشعب للدفاع عن نفسه..الأجدر بها أن تقف إلى جانب هذا الشعب وتدعمه بكل قوة، خصوصًا أنه قدّم ويقدّم أرواح أبنائه، ويضحّي بممتلكاته وأرزاقه في مواجهة عدو غاشم يحتل الأرض، ويجاهر بأهدافه التوسعية وأطماعه التاريخية. وهناك تجارب كثيرة، عبر التاريخ، أدت فيها المقاومة دورًا أساسيًا في تحرير الدولة من الاستعمار والهيمنة الخارجية.

إنّ المقاومة في لبنان نشأت، في ظل ظروف أملتها حال التراجع والضعف في بنية الدولة، فتحرّكت هذه المقاومة، بفعلها العسكري والسياسي والإنمائي والاجتماعي، لملء الفراغ الناتح عن عجز الدولة ومؤسساتها وتلكؤها عن القيام بوظائفها الطبيعية. ولهذه المقاومة دعامة أساسية في بيئتها الحاضنة، والتي تشكّل الدرع الواقية والمحفّز الأساسي لتحرير الأرض وتحقيق السيادة والإسهام الفعّال في بناء الدولة العادلة، والمستقلة وصاحبة السيادة الكاملة على أراضيها.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد