أوراق ثقافية

أرشيف الاستخبارات البريطانية: أسرار 115 عامًا من العمل السري تكشف فضائح واتهامات

post-img

كاتيا يوسف/ العربي الجديد

في خطوة غير مسبوقة، يكشف الأرشيف الوطني البريطاني عن أول تعاون رسمي مع جهاز الاستخبارات البريطانية الداخلية (MI5)، من خلال معرض يسلّط الضوء على 115 عامًا من العمل السري والدفاع عن الأمن القومي.

يمنح المعرض زوّاره فرصة نادرة للتعرّف إلى أسرار لم تُكشف من قبل، عبر عرض معدات تجسس أصلية وملفات وصور فوتوغرافية نادرة مستقاة من المجموعة الخاصة بـ MI5.

ينتقل الزائر في رحلة زمنية عبر محطات مفصلية في تاريخ الجهاز، بدءًا من نشأته قبيل الحرب العالمية الأولى، مرورًا بدوره المحوري في مواجهة الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى حقبة الحرب الباردة بما احتوتْه من جواسيس وفضائح وانتهاءً بالتحديات الأمنية المعاصرة في مكافحة الإرهاب.

فضائح واتهامات

تُعدّ اتهامات رئيس الوزراء السابق هارولد ويلسون للجهاز، بالتآمر ضده، إحدى أكثر اللحظات إثارة للجدل في تاريخه. مشيرًا إلى أنه كان ضحية لمراقبة إلكترونية تم تنفيذها من قبل MI5. ويبيّن في مقال بعنوان "ويلسون: لماذا فقدت ثقتي في MI5"، الذي نُشر في صحيفة ذي أوبزرفر عام 1977، مدى انعدام الثقة الذي أصابه تجاه الجهاز، مما أثار عاصفة من النقاش حول شفافية المؤسسات الأمنية وحدود سلطتها.

لكن الاتهامات ضد هذا الجهاز لم تؤثّر فعليًا على عمله. فعبر مسيرته الممتدة، واجه جهاز الاستخبارات البريطاني تحولات جذرية في أولوياته، بدءًا من مواجهة التهديدات التقليدية خلال الحرب الباردة وصولًا إلى التحديات الأمنية المعاصرة. تكشف وثائق الأرشيف عن تحذير صريح للمدير السابق فيرنون كيل (1909-1940): "اليوم لا نعرف أي دولة قد تشكل تهديدًا مستقبليًا لنا" في إشارة إلى التحديات التي فرضها انهيار المعسكر الشرقي وغياب العدو الواضح.

لقد شهدت تسعينيات القرن الماضي منعطفًا حاسمًا في عمل الجهاز، حيث تحوّل تركيزه من مكافحة التجسس التقليدي إلى مواجهة الإرهاب الداخلي، خاصة مع تصاعد أعمال الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت عام 1992. لكنّ التحول الأكبر جاء مع أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، التي أعادت تشكيل أولويات الأمن القومي البريطاني. وتُبرز الوثائق المعروضة تحذير المديرة العامة للجهاز، إليزا مانينغهام بولر، في صيف 2004 من أن "هناك تطورات مقلقة في تطرّف بعض الشباب البريطانيين المسلمين... لا بد أن يكون الأمر مسألة وقت فقط قبل أن يحدث شيء خطير على نطاق واسع في المملكة المتحدة".

جواسيس وقشور ليمون

في ركن خافت الضوء من قاعة العرض بالمتحف، تقبع "شارة الاتحاد البريطاني للفاشيين" التي ارتدتها ذات يوم الألمانية ميتزي سميث، مديرة دار الرعاية التي تحولت بين ليلة وضحاها إلى مشتبه بها في قضية تجسس كبرى أثناء الحرب العالمية الثانية. بجوارها، تحت زجاج عرض سميك، تتراقص أنوار خافتة على قشرة ليمونة جافة يعود تاريخها إلى 110 أعوام، كانت ذات يوم سلاحًا سريًا في يد الجاسوس الألماني كارل مولر الذي استخدم عصيرها كحبر سري لتمرير الرسائل قبل أن تنكشف خيوط لعبة التجسس ويُعدم في برج لندن الشهير العام 1915.

في جناح آخر، يلفت نظر الزائر جهاز إرسال لاسلكي صغير، دُفن ذات يوم في حديقة منزل هادئ بضاحية رويسليب، كان أداة رئيسة في يد الجاسوسين الأميركيين هيلين وبيتر كروغر لنقل الأسرار إلى موسكو ضمن شبكة "تجسس بورتلاند" التي هزّت بريطانيا في خمسينيات القرن الماضي.

تبرز بين المعروضات وثائق حساسة تكشف تفاصيل استراتيجية "الخيانة المزدوجة" الذكية التي مكّنت البريطانيين من تضليل الاستخبارات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، محققة انتصارات استخباراتية غيرت مجرى المعارك. كما يسلط الضوء على قصة العالم النووي كلاوس فوكس، وجواسيس الذرّة الذين تسربت عبرهم أسرار البرنامج النووي البريطاني إلى الاتحاد السوفيتي في ذروة الحرب الباردة.

لا يخجل المعرض من عرض صفحاته السوداء، إذ تعرض وثائق أصلية تكشف خيوط التحقيقات التي أدّت إلى كشف "عصابة تجسس بورتلاند" وفضائح "جواسيس كامبريدج" الذين اخترقوا أعلى دوائر السلطة البريطانية، وعلى رأسهم كيم فيلبي وأنتوني بلانت وجون كايرنكروس ودونالد ماكلين وغاي بيرغيس.

تحتل أحداث مثل قضية لوكربي، وهجوم الجيش الجمهوري الأيرلندي على شارع داونينغ، وأزمة احتجاز الرهائن في السفارة الإيرانية، مكانًا بارزًا في سردية المعرض التي تقدمها عبر صور نادرة ووثائق سرية، رُفعت عنها الصفة السرية حديثًا.

وجوه صنعت التاريخ السري

يختتم المعرض رحلته الزمنية بتسليط الضوء على الشخصيات التي شكلت تاريخ الجهاز، بدءًا من فيرنون كيل، أول مدير عام للجهاز وأطولهم خدمة، الذي وضع الأسس الأولى للعمل الاستخباراتي الحديث، مرورًا بـ ويليام ميلفيل الذي يعتبر الأب الحقيقي لتحقيقات MI5 في مطلع القرن العشرين.

تحظى إديث لوماكس بمكانة خاصة في المعرض، تلك المرأة التي أشرفت على آلاف الملفات وبطاقات الفهرسة التي سجلت بدقة تفاصيل حياة الأشخاص المشتبه بهم، مشكلة بذلك قاعدة بيانات بشرية كانت الأكثر تطورًا في عصرها. كما يبرز دور ماكسويل نايت، العبقري الذي أدار شبكة العملاء السريين بين الحربين. ويُعتقد على نطاق واسع أنه ألهم شخصية "M" في روايات إيان فليمنغ، مؤلف سلسلة جيمس بوند، رغم أنّ "M" في الروايات يمثّل رئيس جهاز MI6 (الاستخبارات الخارجية)، بينما ماكسويل نايت كان يعمل في MI5 (الاستخبارات الداخلية).

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد