اوراق خاصة

الانتخابات البلدية في جبل لبنان.. معارك أحجام سياسية ترسم خارطة الاستحقاق النيابي

post-img

حسين كوراني/ خاص موقع أوراق

بعد ثلاث سنوات من التأجيل والمماطلة والأسباب غير المنطقية التي حالت دون إجراء الاستحقاق الانتخابيَّ البلديَّ والاختياري، دخل لبنان خلال الساعات الماضية رسميًّا هذا المعتركَ السياسي. وبعد نحو 12 ساعة متواصلة، أُقفلت صناديق الاقتراع أمام الناخبين في مدن محافظة جبل لبنان وبلداتها، بنسبة مشاركة بلغت 45.8%.

شكلت الجولة الأولى من هذه الانتخابات فرصة أثبتت خلالها الأجهزة الأمنية نجاحًا بارزًا بإدارة هذا الاستحقاق الديمقراطي بسلاسة من دون حوادث تذكر، وجاءت النتائج تقول إن الواقع السياسي الذي خيم على انتخابات 2016 أعاد تقريبًا إنتاج التوازنات السياسية ذاتها، حيث للعائلات الكلمة الفصل في البلديات حتّى في المدن الكبرى مثل جونيه وجبيل وكسروان، وحيث القوى السياسية الوازنة حافظت على حضورها وتقاسمت البلديات في المناطق المسيحية.

صحيح أن نسبة المشاركة لم تتجاوز الـ 50%، إلا أنّ العملية الانتخابية جرت في أجواء شبه هادئة في عدد من المناطق، بينما شهدت مناطق أخرى معارك انتخابية شرسة، منها: جونيه، الجديدة – البوشرية – السد، وبعبدا. 

وأوحت نسبة الاقتراع المرتفعة في إجمالي أقضية جبل لبنان وسجلت ارتفاعًا في كسروان لتصل إلى 60 بالمئة، وفي جبيل لتبلغ 57 بالمئة، بأن ثمة حماسة شعبية للانتخابات البلدية وحصول التغيير المنشود.

كما شكلت الانتخابات البلدية في الجبل اختبارًا سياسيًا هامًا للمزاج الشعبي العام بالنسبة للسلطات المحلية بعد سلسلة من الأزمات والانهيارات التي شهدها لبنان وانعكست سلبًا على المواطنين، وبيّنت مدى قدرة التيارات والأحزاب التقليدية على استعادة ثقة جمهورها، وقدرة المجموعات المستقلة والتغييرية على تنظيم صفوفها وعلى المواجهة، وقدرة العائلات على التحكم في القرار المحلي وفرض نفوذها على التيارات السياسية، خصوصًا أن كثيرًا من البلدات في أقضية جبل لبنان استعصت على هذه التيارات، بالرغم من أنها من لون سياسي واحد، حيث طغت الخلافات العائلية على الانتماء السياسي.

يمكن القول إن معركة أحجام سياسية شهدتها محافظة جبل لبنان، خصوصًا أن كلّ التيارات والأحزاب عملت جاهدة لتلافي أي تراجع لها قد تكشفه هذه الانتخابات، حيث يبدو أن التيار الوطني الحر بالرغم من خروجه من السلطة وتراجع نفوذه وشعبيته ما زال حاضرًا ويمتلك نفوذًا واسعًا في بلدات أساسية وثانوية، حيث أعلن خلال ليل أمس عن فوزه في العديد من البلديات، كما سعت القوات اللبنانية إلى تعزيز حضورها والى ترجمة واقعها الجديد بعد التغييرات الجذرية التي شهدها لبنان إلى ترجمة ذلك في الانتخابات البلدية، وكذلك حزب الكتائب الذي وسّع من نفوذه البلدي إلى مناطق عدة، والحزب التقدمي الاشتراكي الذي حرص على حماية زعامته ودوره التاريخي في مناطقه، فضلًا عن تأكيد الثنائي الشيعي أنه ما يزال المتحكم الأول في بيئته المتمسكة بدعمه واحتضانه، كما حاولت بعض قوى التغيير ترجمة حضورها السياسي في السلطات المحلية، لكنّها واجهت معارك شرسة ضدّ التيارات السياسية والعائلات التقليدية.

وهكذا تكون قد شكّلت الجولة الأولى من استحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية التي لم تجر في لبنان منذ تسعة أعوام، إنجازًا ناجحًا بمعايير الإجراءات الأمنية والإدارية واللوجستية التي واكبت هذه الجولة في محافظة جبل لبنان. ذلك أن مرور اليوم الانتخابي الأول من هذا الاستحقاق، الذي سيمتد على ثلاث جولات بعد خلال شهر أيار وسط مناخات هادئة للغاية ومن دون تسجيل مشكلات أو شكاوى تتجاوز الأطر العادية للغاية بدا بمثابة اختبار إيجابي يسجل للسلطات الرسمية والأمنية والإدارية، بما عكس إدراكهما أن أعين الداخل والخارج ستتسلط على هذا الاستحقاق كنموذج أولي لاختيار نزاهة وقدرات وشفافية السلطة في ظل العهد والحكومة الجديدين. 

ورغم أن للانتخابات البلدية طابعًا إنمائيًا، ويقترع فيها الناخبون وفقًا لحسابات عائلية ومحلية بالدرجة الأولى، على عكس الانتخابات النيابية التي تتقدّم فيها الحسابات السياسية، فضلًا عن الاختلاف في طبيعة النظام الانتخابي (أكثري للبلدية ونسبي للنيابية)، إلا أن ذلك لا يُسقط أن للنتائج بعدها السياسي الذي سيعتبره الجميع اختبارًا أوليًا لميزان القوى، يُبنى عليه في الانتخابات النيابية المقرّرة في ربيع 2026.

في ما كان فوز الثنائي محسومًا في البلدات الشيعية في جبيل والضاحية الجنوبية لبيروت معقل حزب الله التي تعرضت لدمار كبير جراء غارات "إسرائيلية" خلال الحرب الأخيرة على لبنان، كانت المعركة الفعلية مسيحية - مسيحية، أثبت التيار الوطني الحر أنه صامد رغم "فائض القوّة" القواتي استنادًا إلى نتائج العدوان "الإسرائيلي" الأخير، وإلى الدعم الذي تحظى به معراب من الوصاية الجديدة على لبنان. إذ كان واضحًا أن تحالف القوات مع القوى المسيحية التي عارضت عهد الرئيس ميشال عون راهن على أن التيار الوطني الحر سيُسحق في الانتخابات البلدية ربطا بانتهاء العهد وإخراج التيار من الحكومة وابتعاده عن السلطة الجديدة، فضلًا عن انه سيصاب بوهن جراء تراجع نفوذ حزب الله. لكن نتائج الأمس دلت على احتفاظه بهامش مناورة كبير في التحالفات وعلى قدرته على استقطاب أصوات فئات مختلفة من الجمهور.

والسؤال الذي يطرحه الجميع على امتداد جبل لبنان: لمَن سيميل الميزان؟ لـ "القوات اللبنانية" أم لـ "التيار الوطني الحر؟". والجواب عن هذا السؤال سيحدد الأحجام السياسية للمرحلة المقبلة.

ويبقى الأهم اليوم التركيز على العمل الإنمائي لخدمة المناطق، والابتعاد عن منطق المحاصصة والحسابات الضيقة خلال المراحل المقبلة، خصوصًا أن الأنظار تتّجه إلى "أمّ المعارك" في بيروت والشمال، لا سيما طرابلس، ثمّ البقاع والجنوب.

لا شك في أن الانتخابات البلدية في جبل لبنان أعطت العديد من المؤشرات السياسية التي يمكن البناء عليها لرسم خارطة الاصطفافات والأحجام في المرحلة المقبلة وانعكاسها على الانتخابات النيابية التي يعتبر هذا الاستحقاق بروفة مصغرة له.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد