ملاك محمد حمود (جريدة الأخبار)
في السادسة وسبع دقائق من مساء الرابع من آب كان انفجار مرفأ بيروت، أشبه بزلزالٍ ناري، خلّف وراءه دمارًا شاملاً، وغضبًا لا يهدأ في صدور أهالٍ ثكالى. خمس سنوات ولا يزال طعم الحقيقة غائبًا عن أي تحقيق.
استئناف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت وسط جدل قانوني واسع
بعد توقفات متكررة بسبب دعاوى الرد والمخاصمة وكفّ اليد، عاد القاضي طارق بيطار أخيراً لمتابعة تحقيقاته في قضية انفجار مرفأ بيروت. ورغم استمرار اعتراضات قانونية على صلاحيته، لا سيما بعد الادعاء عليه من قبل النيابة العامة التمييزية بتهمة «اغتصاب السلطة»، يواصل بيطار عمله بالاستناد إلى ما بات يُعرف بـ«اجتهاد الضرورة»، وهو اجتهاد قانوني لا يزال محل جدل، وقد فنّده القاضي رالف رياشي بشكل تفصيلي، معتبرًا أنه لا يستند إلى أسس قانونية راسخة.
وبحسب لجنة من أهالي الضحايا، فإن بيطار يواجه اليوم دعاوى من ذوي الشهداء أنفسهم، بسبب التأخير في الوصول إلى العدالة، وذلك على خلفية ما وُصف بـ«الاستنسابية» و«تسييس التحقيق»، إضافة إلى غياب وحدة المعايير في ملف بحجم انفجار مرفأ بيروت.
تحقيق انفجار مرفأ بيروت: استنسابية واضحة في الاستدعاءات
واحدة من أبرز النقاط المثيرة للجدل في مسار التحقيق في انفجار مرفأ بيروت (انفجار مرفأ بيروت: لماذا لا تُعلن الحقيقة؟) هي ما يعتبره الأهالي «استنسابية» في استدعاء المسؤولين. إذ استُدعي رئيس حكومة سابق بينما تم تجاهل مَن سبقوه، كما استُدعي أول وزير أشغال، دون أن تطال التحقيقات الوزراء الذين خلفوه.
وقد قدمت لجنة أهالي الضحايا وثائق تُثبت علم وزير العدل الأسبق أشرف ريفي بوجود شحنة النيترات، تتضمّن ثلاثة توقيعات على مراسلات ديبلوماسية، ومع ذلك لم يتم استدعاؤه. الأمر ذاته ينطبق على القاضي جاد معلوف الذي حجز على الباخرة، ولم يُستدعَ إلا بعد ضغط كبير من الأهالي.
في السياق نفسه، تأخّر استدعاء مدير الجمارك ريمون خوري لأكثر من أربع سنوات، رغم تقديم وثائق تثبت مسؤوليته. أما جهاز الرقابة على السفن، الذي حجز الباخرة ومنعها من السفر، فلم يُستدعَ إطلاقًا، رغم سجن مدير الميناء محمد المولى، الذي أدّى واجبه.
غياب المساءلة الدولية والأمنية في ملف انفجار مرفأ بيروت
التحقيق في انفجار مرفأ بيروت لم يشمل حتى الآن جوانب أساسية تتعلق بالرقابة الدولية. فقد سمحت قوات اليونيفيل بدخول الباخرة، رغم تصنيف النيترات كمادة متفجرة، وبرّرت ذلك بأنها أبلغت مخابرات الجيش التي فتشت الحمولة واعتبرتها «نظيفة».
في هذا السياق، حمّلت اللجنة المسؤولية لكل من اليونيفيل ومخابرات الجيش، معتبرة أن التقصير في هذه المرحلة الجوهرية من مسار دخول النيترات هو جزء من أسباب الكارثة. كما لم يُستدعَ أي من قادة الجيش المتعاقبين خلال فترة وجود النيترات، رغم توجيه إنذارات واضحة إليهم، وتقديم تقارير تؤكد خطر الشحنة.
وثائق دولية وتحقيقات تدعم سردية الأهالي
وسط هذا التجاهل لمستويات متعددة من المسؤولية، شكّل العمل التوثيقي لقناة الميادين «رواية الحقيقة» عنصرًا حاسمًا في إعادة بناء سردية ما جرى في انفجار مرفأ بيروت. وأكدت لجنة الأهالي أنها استفادت بشكل كبير من الوثائقي، وجمعت ما يقارب 120 وثيقة ومعطى أمنياً وقانونياً.
وبالإضافة إلى الوثائقي، حصلت اللجنة على تحقيقات من الـFBI، ومن أجهزة أمنية لبنانية وأوروبية، بينها المخابرات الفرنسية والألمانية. هذه الوثائق استخدمت لتفنيد تفاصيل دقيقة حول سير شحنة النيترات والجهات التي كانت على علم بها.
وبحسب وثائقي «رواية الحقيقة»، الذي يعرض تسلسل الأحداث المرتبطة بانفجار مرفأ بيروت، فإن الرواية الرسمية تخفي كثيراً من الوقائع التي بدأت تتكشف منذ وصول السفينة «روسوس» إلى المرفأ عام 2013، محمّلةً بـ2750 طنًا من نيترات الأمونيوم، كانت في طريقها من جورجيا إلى موزمبيق.
كشفت الوثائق أن السفينة، التي استأجرتها شركة «سافارو» البريطانية، واجهت أعطالًا خطيرة عام 2014 دفعت جهاز الرقابة على السفن إلى التوصية بمغادرتها المرفأ فورًا. غير أن عقبات مالية حالت دون ذلك، ما أبقى السفينة راسية في الرصيف الرقم 9 في مرفأ بيروت. في 21 تشرين الأول 2014، زار الكاتب القضائي زياد شعبان المرفأ لمعاينة السفينة، وهناك تبلّغ من رئيس الميناء حينها، حسن قريطم، ضرورة تهوئة العنبر وإخلاء محيط السفينة نظرًا إلى خطورة المواد التي كانت على متنها. وبالفعل، نُقلت حمولة النيترات إلى العنبر الرقم 12 داخل حرم المرفأ في 27 تشرين الأول 2014، رغم تحذيرات عدة من بقاء هذه الكمية القابلة للانفجار في منشأة غير مهيّأة.
وفي موازاة ذلك، كشفت الوثائقيات عن سلسلة مراسلات بين الشركة المورّدة «سافارو» والشركة المستوردة، وكذلك وكلائهما في لبنان، لمحاولة تخليص الشحنة التي تسببت في انفجار مرفأ بيروت أو إعادة تصديرها. وبعد أكثر من عام، أُبلغت الأطراف أن الشحنة قد تلفت، فتوقفت المتابعة القانونية، تاركين المسؤولية بالكامل في عهدة السلطات اللبنانية. أما طاقم السفينة، فقد عانى من احتجاز فعلي دون أفق واضح، ما أثار تساؤلات إنسانية وأخلاقية حول مصيرهم.
عام 2015، قدّم مدير شركة الشحن في لبنان، نجيب مرعي، كتابًا إلى قاضي الأمور المستعجلة جاد معلوف، يقترح فيه إعادة تصدير الشحنة أو تسليمها إلى الجيش نظرًا إلى خطورتها. لاحقًا، وفي عام 2016، طلبت قيادة الجيش من الجمارك سحب عيّنة من المواد المخزنة وتحليلها، ثم كرر المراقب الأول في الجمارك آنذاك، سامي حسين، اقتراح تسليم النيترات إلى الجيش أو إعادة تصديرها لتجنّب كارثة محتملة. المدير العام للجمارك، بدوره، راسل القضاء لمتابعة الملف. رغم ذلك، بقيت الشحنة في مكانها، في صمت قاتل.
في 2018، وخلال جولة تفتيش تتعلق بمكافحة الفساد، اكتشف جهاز أمن الدولة وجود هذه المواد، ورفع تقريرًا يحذر من خطر تعرضها للسرقة أو الحريق، إلا أن السلطات لم تتخذ أي تدبير فعلي. وفي 3 حزيران، أُبلغ رئيس الحكومة حسان دياب بالأمر، وأبدى رغبته في زيارة المرفأ، ولكنه تراجع بعد أن أبلغه أحد الضباط الأمنيين بأن النيترات ليست سوى «سماد زراعي» وليست خطرة.
وبتاريخ 4 آب 2020، وبناء على إشارة من النائب العام التمييزي غسان عويدات، تم استقدام شركة صيانة لترميم الفجوة في الحائط الجنوبي للعنبر 12 وصيانة الأبواب، خصوصًا الباب الرقم 9، قرب موقع السفينة «روسوس». وبعد مغادرة الفريق، اندلع حريق داخل العنبر في الساعة الخامسة والنصف مساءً، قبل أن يكون انفجار مرفأ بيروت الذي غيّر وجه العاصمة إلى الأبد.
الانقسام داخل لجنة أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت
منذ الأيام الأولى التي تلت انفجار مرفأ بيروت، بدأت مجموعة من أهالي الشهداء بالتلاقي في ظل الفوضى والدمار بحثًا عن مصير أبنائهم. وبعد أن تأكدت الفاجعة، قرر الأهالي تشكيل لجنة موحدة، وعبر سلسلة من اللقاءات والمشاورات، اختاروا إبراهيم حطيط ناطقًا رسميًا باسم اللجنة.
المطلب الأول والأساسي للجنة كان واضحًا: محاسبة كل من كان في موقع مسؤولية منذ دخول شحنة نيترات الأمونيوم إلى لبنان حتى لحظة الانفجار، من رؤساء جمهورية وحكومات إلى وزراء وقادة أمنيين وقضاة. إلا أن هذا المطلب، ومع مرور الوقت، لم يعد محلّ إجماع، وبدأت تظهر التصدعات داخل صفوف الأهالي.
بيطار واستنسابية التحقيق: بداية الانقسام
يرى حطيط أن الانقسام بدأ فعليًا مع طريقة عمل القاضي طارق بيطار، الذي عمد إلى استدعاء مسؤولين من طرف وتجاهل آخرين، ما يتعارض مع مبدأ العدالة الشاملة التي تبنتها اللجنة. يقول حطيط: «عندما كنت أصرّ على القاضي أن يستدعي الجميع، كان بعض الأهالي يطلب مني ألا أحرجه، واعتبروا أن الضغط عليه قد يُضعف التحقيق».
هذا التباين في الرؤى، إلى جانب غياب الشفافية، دفع جزءًا من الأهالي إلى الالتفاف حول بيطار رغم ملاحظاتهم، بينما بقي فريق آخر، بقيادة حطيط، متمسكًا بمحاسبة شاملة دون تمييز. ومع الوقت، تطور الخلاف إلى انقسام حاد داخل اللجنة.
محاولة الأحزاب والثوار الدخول على خط القضية
أحد أبرز العوامل التي عمّقت الانقسام، وفقًا لحطيط، كان محاولات بعض الجهات السياسية، لا سيما «حزب القوات اللبنانية»، الدخول على خط القضية عبر رجال دين كانوا يشاركون في الوقفات والاجتماعات. ويضيف: «حتى إنهم أرادوا المشاركة في صياغة بياناتنا، وهذا ما رفضته تمامًا».
كما حاولت مجموعات من «الثوار» الانضمام إلى تحركات الأهالي. ورغم تحفظه، قبل حطيط بانضمامهم بشرط الالتزام الكامل بشعارات اللجنة وأهدافها، وعدم إدخال أي أجندات خارجية إلى القضية. لكن هذا الاتفاق لم يصمد طويلاً.
29 أيلول 2021... نقطة التحول الحاسمة
يعتبر حطيط أن التحرك الكبير الذي حصل يوم 29 أيلول 2021 أمام قصر العدل كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر اللجنة. حيث دعا «الثوار» إلى هذا التحرك، وشارك فيه الآلاف. عند حضوره إلى المكان، فوجئ حطيط برفع شعارات سياسية لا علاقة لها بالقضية، مثل «القرار 1559»، و«القرار 1701»، و«الأخطبوط الإيراني».
عندما حاول إلقاء كلمة باسم لجنة أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، قوبل بشعارات ضد «حزب الله»، ما وضعه أمام خيارين: إما المتابعة وبالتالي التماهي ضمنيًا مع هذه الشعارات، أو الانسحاب لحماية مسار العدالة من التسييس. فاختار الخيار الثاني، وطلب من الحضور وقف الهتافات، إلا أنهم انقلبوا عليه وبدأوا بتوجيه الشعارات ضده شخصيًا.
على إثر ذلك، انسحب حطيط مع عدد من الأهالي من الساحة، وأصدروا بيانًا أعلنوا فيه عدم موافقتهم على ما جرى، مؤكدين أن هذه الشعارات تُبعد القضية عن مسارها الحقيقي: كشف الحقيقة وتحقيق العدالة في جريمة انفجار مرفأ بيروت.
بعد أحداث الطيونة... الانفصال الكامل
في وقت لاحق، وبعد أحداث الطيونة في بيروت، اتصل إبراهيم حطيط بالقاضي بيطار ليقول له إن «الدم دخل إلى القضية، كما كنت أحذر دائمًا». وعندما سأله مجددًا عن سبب عدم استدعاء جميع المسؤولين، أجاب بيطار: «إذا استدعينا الجميع، نُصبح عالقين بين طرفين».
هذا الجواب، كما يروي حطيط، كان النقطة الفاصلة التي دفعته إلى اتخاذ قرار الانسحاب من اللجنة، معتبرًا أن هذا النهج لن يؤدي إلى الحقيقة. ومعه انسحبت حوالى أربعين عائلة من ذوي الشهداء، ما أدى إلى انقسام فعلي في صفوف أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، بين من تمسكوا بالمحاسبة الكاملة، ومن ارتضوا التدرّج أو التسويات
تعويضات انفجار مرفأ بيروت... متى؟
رغم مرور أكثر من خمس سنوات على انفجار مرفأ بيروت، لا تزال مسألة التعويضات واحدة من القضايا العالقة التي تلفّها الضبابية والمماطلة. آلاف العائلات تضررت، منازل تهدّمت، مؤسسات وأرزاق اندثرت، ولكن الدولة لم تقدّم حتى اليوم خطة شاملة للتعويضات، باستثناء مساعدات جزئية ومحدودة جاءت عبر الجيش أو عبر بعض الجهات الدولية.
لكن وسط هذا المشهد، يبرز موقف مبدئي واضح من أهالي الضحايا: «لا تعويض قبل صدور الحقيقة والعدالة» فبالنسبة إليهم، هم لا يطالبون بثمن الفقد، بل بالحقيقة أولًا، وبقرار قضائي يحدّد من يتحمّل المسؤولية في جريمة لا تزال ضمن طيات الغموض.
وتجدر الإشارة إلى أن مسألة التعويضات تعتمد على نتيجة القرار الظني، فإذا كانت نتيجة التحقيق تقضي بأن انفجار مرفأ بيروت نتج من عمل تخريبي فلا تعويضات حينها. أما إذا ثبت في التحقيق أن المسألة هي قضاء وقدر، بسبب التلحيم الذي أجري في العنبر 12، فعندها ستستحق التعويضات.
أشجار الزيتون تنبت من رماد انفجار مرفأ بيروت
في محاولة لتحويل ألم انفجار مرفأ بيروت إلى أمل مخلد، أُطلقت مبادرة رمزية تهدف إلى إعادة مرفأ بيروت ليكون مساحة أمل بدلاً من مشهد الدمار. المبادرة انطلقت بمبادرة من الشاب وسام دياب، بالتنسيق مع أهالي ضحايا الانفجار، وتبنّاها الناشط السياسي سمير صليبا، الذي أوضح أن المشروع يقوم على زراعة 230 شجرة زيتون، بعدد ضحايا الانفجار، تخليداً لذكراهم. وأشار صليبا إلى أن الردميات الموجودة في الموقع ستُحوّل إلى حديقة عامة تليق بأرواح الضحايا وكرامة أهاليهم، وقد تم حتى الآن غرس 75 شجرة، مع استكمال الباقي تدريجياً.
كما كشف عن تنظيم مسيرتين في الرابع من آب، تنطلقان من ساحة الشهداء ومركز فوج إطفاء بيروت باتجاه تمثال المغترب قرب المرفأ، حيث سيلقي الأهالي كلمات ويضعون لوحات تحمل أسماء أحبّائهم عند أشجار الزيتون المزروعة.
انفجار مرفأ بيروت الذاكرة المؤلمة
في الرابع من آب 2020، لم يكن مجرد انفجار هزّ العاصمة بل كان يومًا انكسر فيه قلب بيروت. في السادسة وسبع دقائق مساءً، دوّى انفجار مرفأ بيروت كصاعقة، حوّل سماء المدينة إلى غيمة حمراء من النار والغبار، وترك خلفه أكثر من 220 شهيدًا، وأكثر من 6500 جريح، فيما شُرّد ما يزيد على 300 ألف شخص من بيوتهم، وانمحت أحياء بكاملها عن الخريطة.
لم تكن بيروت في ذلك المساء تشبه نفسها. شوارعها امتلأت بالزجاج المهشّم، بالأجساد الممدّدة، بالصمت الذي أعقب الصراخ. أما الكارثة، فلم تقف في حجم الانفجار، بل في ما كشفه من إهمال ممنهج، وغياب للمسؤولية، وسكوت طويل عن الخطر. لقد ترك الانفجار حفرة تجاوز عمقها 40 مترًا، ودمارًا طال المرفأ وصوامع القمح وأحياءً تاريخية، فيما فاقت الخسائر المادية 3 مليارات دولار، والخسائر الاقتصادية العامة 15 مليارًا.
اليوم، بعد أكثر من خمس سنوات، لا تزال العدالة غائبة، كما لو أن الزمن توقف في تلك اللحظة. لكن الحقيقة لا تموت، وصوت الضحايا لا يخفت. لأن انفجار مرفأ بيروت جرح وطني مفتوح، لا يندمل إلا بالحقيقة الكاملة، والمحاسبة الشاملة.