ماهر سلامة (صحيفة الأخبار)
في الوضع الحالي للمالية العامة التي انكمشت بنسبة 66% بين عامي 2019 و2026، كان بديهياً أن يكون التركيز على تعافي الموازنة من أجل تحسين الخدمات العامة، وتحسين أجور القطاع العام الذي تهالكت قدرته الشرائية في السنوات الأخيرة. لكنّ أمراً كهذا يتطلّب تغييراً هيكلياً في السياسة الضريبية تكون أولوياته تحقيق العدالة الاجتماعية وتحفيز النمو الاقتصادي.
ولكن الفجوات الضريبية كبيرة وهائلة، وأبرزها الشركات الأجنبية الرقمية التي لا يلحظها النظام الضريبي، أو يفتح لها أبواب التهرّب المقونن. المحامي كريم ضاهر أعدّ دراسة لتوسيع قاعدة الامتثال الضريبي لتشمل بعضاً من المتهرّبين أو المسموح لهم بالتهرّب. وهو لا يقدّم رؤيته في إطار «التأسيس» بمقدار ما ينظر إلى التصحيح رغم أن الحاجة تبدو أكبر لإصلاح عميق.
ينظر ضاهر إلى زاوية محدّدة يغفلها النظام الضريبي في لبنان، أي الشركات الأجنبية الرقمية التي تقدّم خدمات محلية. فقد تبيّن له أن الشركات التكنولوجية تحقّق أرباحاً كبيرة في لبنان، وتجني الأرباح مقابل خدمات غير ملحوظة بصورة واضحة في القانون. ومن هذه الشركات التي يذكرها ضاهر في دراسته، منصّات عالمية مثل Uber وAirbnb وAmazon ومتاجر التطبيقات مثل Apple Store، فضلاً عن شبكات التواصل الاجتماعي مثل Facebook وX، وكلها تستفيد من الثغرات الحالية في القانون الضريبي اللبناني لتقديم خدماتها من دون حضور ضريبي فعلي داخل لبنان، ما يسمح لها بالعمل خارج دائرة التكليف والرقابة.
في الواقع، يُعدّ النظام الضريبي اللبناني ملائماً للتهرّب، بسبب طبيعته الشرائحية القديمة والمجزّأة التي تفصل بين أنواع الدخل بدلاً من اعتماد ضريبة دخل موحّدة. هذا التفكّك يسمح للعديد من الأنشطة الاقتصادية بالبقاء خارج نطاق التكليف الضريبي بحجّة عدم وجود نصّ صريح يشملها، وهذا ما يُركّز عليه ضاهر.
فالقانون يعتمد حالياً على التصريح الذاتي بلا رقابة رقمية فعّالة، في ظل غياب أدوات تتبع للمدفوعات الإلكترونية وتشتّت المعلومات بين إدارات الدولة. يُضاف إلى ذلك، بحسب ضاهر، استمرار السرية المصرفية، عملياً، ما يعيق قدرة الإدارة الضريبية على فحص تطابق الدخل الفعلي مع التصاريح.
كما أنّ عدم إلزامية استخدام الرقم الضريبي (TIN) في كل المعاملات التجارية يخلق فجوة تسمح بالكتمان وبقاء جزء كبير من الاقتصاد في «الظلّ». ونتيجة لهذه العوامل مجتمعة، يصبح القانون نفسه، بتصميمه وآلياته، بيئة خصبة للتهرّب، لا يحتاج فيها المكلّف إلى وسائل معقّدة للالتفاف على الضرائب، بل يكفيه الاستفادة من الثغرات القانونية وضعف الربط والرقابة.
فالتشريعات الضريبية اللبنانية وُضعت في خمسينيات القرن الماضي، وهي لا تتضمّن أي مفهوم مرتبط بالاقتصاد الرقمي أو الخدمات عبر الإنترنت. وهذه إحدى الثغرات الأساسية. فبحسب دراسة ضاهر، يفترض النظام وجود كيان فعلي أو «مكان ثابت للأعمال» ليصبح خاضعاً للضريبة، بينما تستطيع الشركات الرقمية العمل في لبنان وجني الأرباح من المستهلكين اللبنانيين من دون أي حضور مادّي، ومن دون وقوعها تحت مفهوم «المؤسسة الدائمة» الذي تعتمد عليه المعاهدات الضريبية. كما لا يتناول القانون، خدمات إلكترونية مثل: بيع البرمجيات، الوساطة الرقمية، التطبيقات الإلكترونية، أو الإعلانات الرقمية.
بنتيجة ذلك، تتمكّن المنصّات الدولية من قبض المال من السوق اللبنانية من دون أي تسجيل محلّي أو التزام ضريبي، بينما يبقى المستفيدون المحليون خارج الرقابة بسبب ضعف التعريف القانوني لـ«الدخل الرقمي» بحسب ضاهر. هذه الثغرات تجعل التشريع غير قادر على مواكبة طبيعة القيمة الرقمية، أي قيم الأصول الرقمية (مثل البيانات، الخوارزميات، مشاركة المستخدمين)، فتتحوّل البيئة الضريبية إلى مساحة تسمح بتحقيق أرباح كبيرة داخل لبنان من دون أي مساهمة ضريبية.
في هذا الإطار، يقترح كريم ضاهر مجموعة إصلاحات تهدف إلى مواءمة النظام الضريبي اللبناني مع واقع الاقتصاد الرقمي، بدءاً من تحديث التشريعات لتشمل الخدمات الإلكترونية واعتماد مبدأ «الحضور الاقتصادي الفعلي»، فتخضع الشركة للضريبة في البلد الذي تُمارِس فيه نشاطاً اقتصادياً حقيقياً وتُنتِج فيه قيمة، حتى لو لم يكن لديها وجود مادي أو مكتب أو موظفون على أرضه، وذلك لفرض ضريبة على الشركات الرقمية حتى في حال غياب مقرّ لها في لبنان.
كما يدعو إلى إصلاح النظام الشرائحي الحالي، الذي يُقسّم الدخل إلى فئات مستقلّة بحيث يُفرض على كل فئة نوع مختلف من الضرائب وفق قواعد منفصلة، واستبداله بضريبة دخل موحّدة وعادلة تشمل كل أنواع الدخل. إضافة إلى تعزيز قدرات الإدارة الضريبية عبر أدوات رقمية مثل الذكاء الاصطناعي، وتحسين التتبّع عبر تطبيق إلزامي لرقم التعريف الضريبي وربطه بالمعاملات التجارية والمصرفية.
ويشدّد ضاهر أيضاً على ضرورة مكافحة الفواتير الوهمية، واعتماد تقنية «بلوكتشاين» بين الوزارات لضمان شفافية البيانات، إلى جانب توسيع التعاون الدولي من خلال الانضمام إلى آليات مثل BEPS وCRS لضبط تهرّب الشركات المتعدّدة الجنسيات وضمان بيئة ضريبية أكثر عدالة وشمولية.