اوراق مختارة

في لبنان: لا سيادة جوّية ولا سيبرانية

post-img

جولي عرب (جريدة الأخبار)

في ظلّ تصاعد التوترات الإقليمية التي تعصف بالمنطقة، ليست الأجواء اللبنانية فقط التي تُخترق بشكل متكرّر من قِبل الطائرات الحربية والتجسّسية، بل الفضاء الإلكتروني اللبناني أيضاً يتعرّض لهجمات متزايدة تستهدف بياناته وحساباته، ما يُظهِر هشاشة أمنية خطيرة لا تقلّ خطورة عن الاختراقات الجوية، إذ يبدو لبنان مكشوفاً في واحدة من أخطر ساحات الاشتباك غير المرئي: الفضاء السيبراني.

‎في لبنان، الأمن السيبراني الذي يُفترض أن يكون الدرع الواقية لعالم الاتصالات والمعلومات لحماية بيانات الدولة والمواطنين، يُكشف يوماً بعد يوم، وتُخترق أنظمته بسهولة. وفيما يتقدّم العدو بأدوات متطوّرة، يزرع الفيروسات كما تُزرع القنابل، ويتسلّل إلى قواعد البيانات كما تتسلّل الطائرات إلى الأجواء، تكتفي الدولة بالمراقبة… إن وجدت.

468 هجمة خلال 6 أشهر فقط

منذ بداية عام 2025، سجّلت شركات الأمن الرقمي العالمية ارتفاعاً حادّاً في عدد الهجمات السيبرانية التي تستهدف لبنان، حيث رُصدت 468 هجمة من نوع DDoS (هجمات نفي الخدمة الموزعة)، بلغت ذروتها 63.02 جيجابت في الثانية، وفق تقرير رسمي صادر عن «SOCRadar».

وتهدف هذه الهجمات إلى تعطيل الخدمات الرقمية الحيوية، ممّا يضع القطاع العام الذي يشكّل نحو 26% من مجمل التهديدات الإلكترونية في دائرة الخطر. وقد تمّ تسريب أكثر من 556 ألف بريد إلكتروني مع كلمات مرور، و8 آلاف سجلّ لبطاقات ائتمان، ممّا يرفع احتمال تعرّض المواطنين لمخاطر الاحتيال والسرقة، بحسب التقرير نفسه.

وفي شباط 2025، نبّهت «SMEX» إلى وجود ثغرة خطيرة في منصة إلكترونية تابعة لوزارة الداخلية، كانت مخصّصة للتحقّق من القيد الانتخابي للناخبين. المنصة تُركت مفتوحة من دون أي حماية، ما أتاح لأي مستخدم الاطّلاع على بيانات شخصية حسّاسة لملايين اللبنانيين، منها: الاسم الكامل، رقم السجل، الطائفة، مكان السكن، وتاريخ الولادة.

وفي السياق، كشفت منظمة «SMEX»، في تقرير صدر في نيسان الماضي، عن خرق واسع تعرّض له موقع إلكتروني تابع لوزارة الشؤون الاجتماعية.

من جهتها، أقرّت الوزارة في بيان رسمي بالاختراق، لكنها أكّدت أنّ الموقع لا يحتوي على أي بيانات شخصية للمستفيدين من برامجها الاجتماعية.

وتبنّت الهجوم مجموعة قرصنة تعرف بـ«ROOTK1T»، التي أعلنت، عبر «تلغرام»، تسلّلها الكامل إلى قاعدة البيانات، وقالت: «نحن ROOTK1T! نعلن بكلّ فخرٍ انتصارنا على موقع وزارة الشؤون الاجتماعيّة في لبنان»*.

ليس الخرق الأوّل

وبحسب «SMEX»، اخترق مجهولون نظام مطار رفيق الحريري الدولي، في كانون الأول من العام الماضي، حيث عُرضت رسائل سياسيّة على الشاشات عوضاً عن مواعيد الرحلات، وتوقّفت جرّارات الحقائب مؤقّتاً.

الحادث لم يكن استثناءً. منذ عام 2018، تعرّض لبنان لحملات قرصنة متكرّرة، أبرزها هجوم «DNSpionage» الذي استهدف مواقع حكوميّة وشركات لبنانيّة، بينها شركة «طيران الشرق الأوسط». وفي 2019، شوّهت مجموعة «جنود الثورة السورية» الصفحة الرئيسيّة لموقع المطار.

ومنذ 7 تشرين الأوّل 2023، يتلقّى سكّان الجنوب اللبناني اتّصالات هاتفيّة بلهجات لبنانيّة تُطلب فيها معلومات شخصيّة، تسبق غالباً غارات إسرائيليّة. يُرجّح أنّ مصدرها إسرائيليّ، ما يشير إلى استغلال العدوّ لشبكات الاتّصالات المحلّية، وسط غياب أي إجراءات حكوميّة علنيّة للحماية أو التحقيق.

تجسّس ذكيّ بمسيّرات و«بيغاسوس»

استغلّ العدوّ الإسرائيلي ضعف البنية السيبرانيّة اللبنانيّة، مستخدماً تقنيّات تعلّم آليّ للتعرّف إلى الأهداف وتحديد مواقعهم بدقّة. وعبر برامج تجسّس مثل «بيغاسوس»، تمكّن من اختراق هواتف لبنانيّين والوصول إلى محتوياتها، حتى تلك المحذوفة.

المسيّرات الإسرائيليّة المزوّدة بذكاء اصطناعيّ قادرة على رسم خرائط للمباني، تمييز المقاتلين من المدنيّين، كما تستطيع تنفيذ عمليات تشويش على إشارات الـGPS واعتراض المكالمات والبيانات اللّاسلكية.

وحول ما يجب القيام به كأفراد، شدّد مدير برنامج الإعلام وحوكمة الإنترنت في «سمكس»، عبد قطايا، في حديث إلى «الأخبار»، على ضرورة «إزالة التطبيقات غير الضرورية، وتقييد الأذونات، وإطفاء الهواتف أثناء عدم الاستخدام لأنها عوامل أساسية في تقليص البصمة الرقمية»، داعياً إلى «الحذر من الروابط المشبوهة، وعدم التفاعل مع رسائل مجهولة على تطبيقات التواصل».

في المقابل، حذّر قطايا من «الاكتفاء بهذه التدابير الفردية»، لافتاً إلى أنّ «الحماية الشاملة لا يمكن تحقيقها من دون تدخّل الدولة»، معتبراً أنّ «المسؤولية تقع على الحكومة اللبنانية لمعالجة الثغرات في بنية الاتصالات، ووضع سياسات فعّالة للأمن السيبراني».

خطة لم تفعّل

قرّرت الحكومة اللبنانية عام 2012 تشكيل لجنة وطنية لصياغة إستراتيجية الأمن السيبراني، وتمّت المصادقة الفعلية عليها في 29 آب 2019، ضمن إطار ثمانية محاور شملت الدفاع السيبراني، وتعزيز القدرات الحكومية، والتعاون الدولي، وإطلاق وكالة (NCSIA) لتنسيق الجهود.

ولكن حتى منتصف 2025، لم يُفعّل أي جزء من هذه الخطة. فالمؤسسات المقترحة لم تُنشأ، والهيئة الوطنية لم ترَ النور، والإستراتيجية بقيت حبراً على ورق وسط غياب الإرادة والتنسيق المؤسّسي، ولم تُسنّ أي تشريعات تنفيذية تدعم تطبيقها.

يتزامن هذا الانكشاف مع تصاعد التوترات الإقليمية، إذ بات أمن البيانات جزءاً من معركة كبرى تتداخل فيها الاستخبارات، الشركات الخاصة مع العدو الإسرائيلي. ورغم ذلك، تتعامل الجهات الرسمية مع الأمر كأنه خلل تقني… لا كخطر وجودي.

وفي بلد لا تُصان فيه بيانات الناس، هل تتحرّك الدولة لحماية ما تبقّى من سيادة رقمية؟

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد