حمزة البشتاوي/ كاتب وإعلامي
تحول القمح في غزة إلى موت، والطحين إلى دم، والخبز إلى حلم صعب المنال، بعد أن وصل سعر كيس الطحين في ذروة حرب التجويع إلى أكثر من 200 دولار..
وتتفاقم المعاناة في قطاع غزة جرّاء فقدان الطحين وأنواع الغذاء والدواء كلها، مع أن للقمح العربي حضوره على الخريطة الدولية، حيث تبلغ مساحة الأراضي العربية المزروعة بالقمح نحو 73 مليون هكتار، ويتركز إنتاجه في خمسة دول؛ وهي: مصر والمغرب والجزائر والعراق وسوريا. والمنطقة العربية كلها لديها تربة مناسبة لزراعة القمح وتحقيق الاكتفاء الذاتي والتصدير، مع أن القمح في الدول العربية يستهلك بشكل كبير، هناك كميات ضخمة تتلف سنويًا بسبب سوء التخزين.
في قطاع غزة المحاصر بالحرب والجوع أصبحت مهمة الحصول على الطحين محفوفة بخطر الموت، وأصبح الطحين في القطاع بمثابة الذهب الأبيض الذي يموت الناس من أجل الحصول عليه..
ويحمل أهالي المجوّعين كيس الطحين على أكتافهم، كما يحملون الشهيد، ولا يخافون على حياتهم من أجل الوصول إليه؛ لأن الجوع أقوى من الخوف الساكن في عيون المحتشدين في الطوابير للحصول على كيس من الطحين الذي لم يعد رمزًا للجوع وحسب؛ بل شاهدًا صارخًا على إنهيار القيم الإنسانية والأخلاقية، بعد أن تحولت الأجساد في غزة إلى هياكل من جلد وعظام، ومناطق توزيع المساعدات إلى مناطق موت وجرائم ضد الإنسانية.
لما كان "القمح مرّ في حقول الآخرين" الذين لم يتحركوا لإدخال الطحين إلى غزة، فإن قمح غزة ليس رغيفًا؛ بل شاهدًا على العجز والتخاذل والخذلان.
في غزة؛ على الرغم ممّا يحكى عن إسقاط مساعدات من الجو، ينام الأطفال على صوت بطونهم الخاوية، حيث لم يعد "كيلو الطحين" مجرد مادة غذائية، لقد تحول إلى أمنية وحلم يراود الأباء والأمهات والأطفال، كما بات عنوان صبر وألم في معركة البقاء على قيد الحياة..
يقول طفل غزاي مجوعّ بأن والدته قبل استشهادها وعدته بحال الحصول على الطحين أن تصنع له رغيفًا.. يقول: "بس أنا ما كنت رح أكله لحالي"..!
في غزة؛ كثير من القصص والحكايات التي دفنت مع أصحابها؛ وهم يحاولون الحصول على كيس طحين يخفف من وطأة الجوع الذي لم تحد منه التصريحات والبيانات والإدانات والإجتماعات العربية، فهي ضجيج بلا طحين.. وسط الفرجة على المجوّعين في قطاع غزة، وهم يحاولون فصل الطحين عن الرمل بعدما ينثره رصاص جنود الاحتلال، كي يضيفوا إليه بعض الماء ويعجنوه كي يصير خبزًا ينتصرون فيه على حرب الإبادة والموت والتجويع..