اوراق مختارة

5280 دولاراً نصيب الفرد الواحد من الناتج المحلي

post-img

جريدة الأخبار

في السنتين الماضيتين سجّل الناتج المحلّي للفرد نموّاً لم يرقَ إلى تعافٍ يعيده إلى مستويات ما قبل الأزمة، لا بل إنه لا ينطوي على أي دلالة على أنّ القدرة الشرائية للأسَر تحسّنت لأنها أُصيبت بمزيد من تضخّم الأسعار بالدولار الذي سجّل انتفاخاً بمعدل 45% في سنة 2024 وحدها.

نصيب الفرد من الناتج المحلي كان على مسار تصاعدي متواصل في سنوات ما قبل الأزمة. أسهمتْ في هذا المسار الأزمة المالية العالمية سنة 2008، لكن سرعان ما تبيّن أنه ليس ارتفاعاً بل هو ورم مصدره الرئيسي نموّ الكتلة المالية المتدفّقة إلى لبنان والهاربة من جحيم الأزمة في العالم.

ففي عام 2007 كان نصيب الفرد من الناتج يبلغ 5160 دولاراً، ثم بلغ في عام 2018 نحو 9230 دولاراً. وانفجرتِ الأزمة في منتصف عام 2019 ليخلص الأمر في نهايتها إلى انحدارٍ بنسبة 4.5%. لم يكن هذا الانحدار سوى مجرّد بداية، إذ إن نصيب الفرد انخفض إلى أدنى مستوياته في عام 2021 مسجّلاً 3540 دولاراً.

ورغم أن السلطة لم تتعامل مع الأزمة إلا من خلال تبديد الموارد، ولا سيما الدولارات التي كانت متوافرة في حسابات مصرف لبنان الخارجية، إذ وزّعت منها 8 مليارات دولار على المصارف، ثم أنفقت على دعم السلع الأساسية المستوردة بما قيمته 12 مليار دولار، إلا أن نصيب الفرد بدأ يسجّل مساراً إيجابيّاً معاكساً للمسار الانحداري الذي انطلق مع انفجار الأزمة.

واستمرّ ضمن هذا المسار إلى أن بلغ 5280 دولاراً في نهاية 2024، بحسب أرقام صندوق النقد الدولي الصادرة أخيراً.

وهذا الارتفاع، أتى نتيجة عوامل عدّة، إذ إنه لا يعني أنّ القدرة الشرائية أو المستوى المعيشي للأسر قد سجّل تحسناً أو تعزّز بأي شكل من الأشكال، لكنه نتج بشكل أساسي من الاعتماد المفرط لنمو الناتج المحلي على تدفّقات المغتربين المالية والتدفقات الأخرى الآتية من منظمات أممية أو من جهات غير ملحوظة ضمن الإحصاءات الرسمية.

عملياً، إن الزيادة في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أتت بعد تصحيح انطلق في عام 2022 مع ارتفاع حجم الناتج من 19.8 مليار دولار في نهاية 2021 إلى 24.75 مليار دولار في عام 2022 ثم إلى 23.6 مليار دولار في عام 2023 وصولاً إلى 28.28 مليار دولار في عام 2024.

الارتفاع المسجّل في الناتج كان اسمياً، وهو يظهر بوضوح في السنة الأخيرة تحديداً، إذ إن صندوق النقد الدولي نفسه الذي أصدر هذه الأرقام أشار إلى أن الناتج انكمش في عام 2024 بنسبة 7.5%.

وقد كان التضخّم سمة أساسية في تورّم الناتج بهذا الشكل، إذ سجّلت الأسعار زيادة بمعدل 45% في عام 2024، وهذا المعدل كان الدافع الأساسي للارتفاع المسجّل في الناتج المحلّي، وبالتالي في نصيب الفرد من الناتج المحلي.

بمعنى أوضح، إن نصيب الفرد تآكل فعلياً بالتضخّم رغم أنه كمؤشّر يظهر العكس تماماً. ففي الحقيقة لم تلمس الأسر اللبنانية أي تحسن في أوضاع معيشتها وفي قدراتها الشرائية. هذا المؤشر كان مُضلّلاً.

العامل الثاني الذي يؤثّر على مؤشّر نصيب الفرد من الناتج المحلّي هو عدد المقيمين في البلد، والذي انخفض بشكل لافت في السنوات الأخيرة.

فالمقيمون في البلد هم من يتوزّع عليهم إنتاج البلد، الذي يعبّر عنه الناتج المحلي، فكلما قلّ عددهم، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي. منذ بداية الأزمة، انخفض عدد المقيمين في لبنان من نحو 6 ملايين نسمة إلى 5.35 ملايين نسمة في عام 2024، وهو انخفاض بنسبة 11% خلال 5 سنوات فقط. وهذا الأمر لا يدعو إلى التفاؤل، إذ إن انخفاض عدد المقيمين يأتي من خلال خسارة رأس مال بشري كبير، وهم بالأساس من العمّال المهرة الذين تستفيد منهم الاقتصادات التي تستقبلهم، سواء كانوا يحملون جنسية البلد أو من جنسيات أخرى.

هؤلاء خرجوا من البلد بحثاً عن عوائد وظيفية أفضل، وهي موجودة في الخارج، أو بحثاً عن عمل بسبب عدم وجود فرص عمل كافية في الاقتصاد اللبناني.

خروج رأس المال البشري ينعكس سلباً على الاقتصاد، حتى لو لم يظهر هذا الأمر على المدى القصير. هذا الخروج يعني فقدان فرص إنتاجية أكبر للقوى العاملة في لبنان، ما يعني انخفاضاً في حجم الإنتاج المستقبلي، وانكماشاً «حقيقياً» إضافياً للاقتصاد.

إن ارتفاع الناتج المحلي للفرد في لبنان بين عامي 2021 و2024 قد يكون مؤشراً مضلّلاً إذا لم يُقترن بفهم أعمق لتغيرات الكتلة السكانية وهجرة الشباب. فالمسار نحو انتعاش اقتصادي حقيقي ومستدام يبدأ باستعادة الثقة وتقديم فرص واعدة للقاطنين ليبقى لبنان وطن الأمل بدل غياب المستقبل.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد