د.عبدالله عيسى/ كاتب لبناني
تُعدّ الأسرة اللبنة الأولى، في بناء المجتمعات، والقاعدةَ الأساسيّة لصياغة الهويّة الفكريّة والروحيّة للأفراد والمحرّك الأساسيّ لترجمة قيمها واتجاهاتها. ولا تقتصر وظيفتها على توفير الاحتياجات الماديّة فحسب، هي تمتد إلى كونها المدرسة الأولى التي تُرسَم فيها مبادئ التربية الأسريّة، والتي تؤدي دورًا محوريًّا في صياغة شخصيّات قادرة على الإسهام في بناء "مجتمع المقاومة" وتيسير الفعل المقاوم وحمايته، وفي تحقيق الانتصارات وصدّ الانكسارات والمشاركة في الاستحقاقات كافة، بميادينها وأبعادها المختلفة.
التربية الأسريّة والإيمانيّة توأما القيام لله
يمكن القول بثقة إن التربية الأسريّة فعلٌ بنائيّ مقاوم بامتياز، يسهم في النهوض والاقتدار؛ ارتكازًا إلى دعائمه المتينة المنبثقة من التربية الإيمانيّة على الولاية والجهاد والصبر على المصائب وتحمّل الصعاب والانطلاق بمسؤوليّة التصدّي والمبادرة والأخذ بأسباب القوّة الواقعيّة "الغيبيّة والمحسوسة المجرّدة والمعنويّة والماديّة"، بهمّة عالية وعشق للشهادة ونجاعة واثقة في بثّ روح الأمل. وعندما تتفاعل هاتان الركيزتان التربويّتان، فتُنتِج أفرادًا مُؤمنين بضرورة المقاومة صراطًا أخلاقيًّا ودينيًّا مستقيمًا لمواجهة الظلم والهيمنة. إذ تُسهم التربية الأسريّة في تفعيل البُعد الإيماني لتعزيز ثقافة المقاومة.
من الجدير التنويه، أن التربية الأسريّة ليست مجرّد تلقين للمعارف، هي عملية بناء عقديّ ووجداني وسلوكيّ. إذ من خلال القصص الدينيّة التي تُروى في البيوت تُغرس قيمُ المقاومة في وعي الأبناء لتكون جزءًا من الهوية الإيمانيّة. والتربية الإيمانية في المحيط الأسريّ لا تقتصر على الشعائر الروحيّة، هي تُعدّ منهجًا لتربية الإرادة.
كما تُشجِّع الأسر المُلتزمة أبناءَها على قراءة القرآن وفهم آيات الجهاد والنصر، فيربط بين الإيمان والعمل لتحقيق القوّة الذاتيّة والجماعيّة. ولا تُؤثر التربية الإيمانية عبر الكلام فقط، أيضًا عبر سلوك الوالدين كمثالٍ حي. هذا النوع من "المقاومة اليومية"، والمستمد من الإيمان بالله ومراقبته، يُكوِّن شخصياتٍ قادرةً على المواجهة الأكبر في القضايا الوطنيّة والقوميّة والإسلاميّة، مثل مقاومة الاحتلال أو رفض التطبيع.
إذ تحوِّل التربية الأسريّة الواعية الإيمانَ إلى مشروع مجتمعيّ، وهنا تتداخل التربية الإيمانية مع التربية السياسية، فتُناقش قضايا الأمة، مثل تعبير عن الإيمان وتتغذّى معهما البصائر الدينيّة والسياسيّة. ولا تنفصل التربية الأسريّة في الأزمات عن البُعد الإيماني، حيث تُربط الأعمال التكافليّة بالثواب الدينيّ، فتحوّل المحنة إلى منحة إلهيّة باعثة على الاصطبار والحمد والشكر، وإلى فرصة لتعميق الإيمان وازدياده وترسيخه.
وعليه، التربية الأسريّة ليست حاضنةً للإيمان فحسب، هي بمقتضاه مُحرِّكٌ لانتهاج الفعل المقاوم. إذ إن الأسر التي تنجح في ربط طاعة الله بنصرة المظلوم، تُنتج أجيالًا تُدرك أن الإيمان الحقيقيّ لا يكتمل إلا بمقاومة أشكال الظلم كله، من الاحتلال العسكريّ إلى العقوبات الاقتصاديّة، والغزو الثقافي.. فلا إقامة للدين إلا بالقيام لله والجهاد ضد المستكبرين وتحطيم أصنامهم وأغلالهم.
التربية الأسريّة إرثٌ حضاريٌّ حارسٌ للمقاومة بالقدوة
التربية الأسريّة فعلٌ مقاوم مستدام، في تناسل فكرة المقاومة من جيل إلى جيل، في شكل عهد وميثاق وعروة وثقى، وهي إرث حضاريّ مركوز في عقل الأمّة ووجدانها وذاكرتها بكلّ محمولاتها الثقافيّة والتاريخيّة والمعنويّة والقيميّة.
هذا الإرث الحضاريّ غنيّ، في مبانيه المعرفيّة وفي متانة محاكاته الدائمة للسنن الإلهيّة، وعميقٌ في جذوره الممتدة من نشأة الأرض وخلق الإنسان وفلسفة وجوده وبقائه واستمراره إلى قيامة يوم الدين. وهو ثريٌ بالمحتوى والأساليب في حركة الأنبياء ومواجهة الطواغيت والقصص والأمثال والدروس والعِبر، ذاخر بانتصارات "...كم من فئةٍ قليلة غلبت فئةً كثيرة بإذن الله..."، شامخ بانتصار الدم على السيف وبصرخة "هيهات منّا الذلة"، بكل ما في كربلاء من مزايا تتجسّد في عنفوان أهل الحق.
التربية الأسريّة عين حارسة للمقاومة، بوصفها نواة متكوثرة في البيوتات الصالحة، وكهف المواجهة المسلّحة تسهم في تحصين المقاومة من اختراق العدو ومدّها بالمعلومات والأفراد والفعاليّات كافة الحاضنة لأعمال المقاومة العسكريّة والأمنيّة خياراتها السياسيّة الداخليّة، وكونها جزءًا من الأمن القوميّ لدول وحركات المقاومة ورجع صدى القيادة المؤتمنة.
التربية الأسريّة فعلٌ بنيويّ مقاوم، تشمل مقاومة التحدّيات الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، والتصدّي للفساد، والحفاظ على الهويّة في ظل العولمة والحرب الناعمة وكذلك المركّبة قتلًا وحصارًا وعقوبات... وتُحوِّل التربية الأسريّة القائمة على القيم الجماعيّة التحدياتَ إلى فرصٍ لتعزيز اللّحمة والتماسك والتكافل الاجتماعيّ.
تبرز التربية الأسرية روحًا مقاومة تسري بالقدوة، كأداة فاعلة لتعزيز قيم الصمود، والبصيرة السياسيّة، وكصخرة تتحطم عندها كل مؤامرات الأعداء ومشاريع الفتنة والتقسيم والتفتيت والفوضى والإذعان.
التربية الأسريّة ليست ترفًا، بل استثمار في مستقبل مجتمع يقاوم التحديات بوعي وإيمان، ويبني انتصاراته بتضامن المؤمنين بعقيدة المقاومة، ويرسم مسار تقدّمه بمشاركة كل اللائقين من أفراده صناعة النصر على عين الله والوفاء للشهداء.