يحيى دبوق (الأخبار)
سُرّبت إلى الإعلام العبري والأميركي، أخيرًا، سلسلة معطيات "تحذيرية"، تشير إلى احتمال إقدام "إسرائيل" على تنفيذ ضربة عسكرية تستهدف المنشآت النووية الإيرانية، حتّى في ظلّ استمرار المفاوضات بين طهران وواشنطن، ومن دون تنسيق مسبق بين الأخيرة وتل أبيب. ويبدو أن التسريبات المشار إليها، والتي يراد لها أن تُقدَّم كأمرٍ واقع محتمل، لا تعكس بالضرورة نيّات حقيقية قابلة للتنفيذ، بقدْر ما تُستخدَم كأداة ضغط سياسية محسوبة، تهدف إلى دفع إيران نحو تقديم مزيد من التنازلات على طاولة المفاوضات.
وإذ ينفي رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وجود خلافات مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب - كانت تحدثت عنها وسائل إعلام أميركية -، فإن الواقع يقول إن مثل هذه التقارير لا تُنشر عبثًا، ولا تَظهر إلى العلن إلّا بغرض إيصال رسائل مضمرة إلى أكثر من جهة، خصوصًا أن مسار المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران، وإن كان يسير بثبات، إلا أنه يصطدم، في الوقت ذاته، بعقبات جوهرية، أبرزها الخلاف حول قضيّة تخصيب اليورانيوم.
ويدفع تصادم الخطوط الحمراء المتقابِلة، كلًا من الطرفَين إلى استخدام أدواته لإضعاف موقف الطرف الآخر؛ ومن بين تلك الأدوات، تسريب الأخبار، والتهديد بعمل عسكري، وكذلك التصريحات التي تعطي انطباعات بإمكانية فشل التفاوض، والذهاب إلى التصعيد. وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" كشفت، نقلًا عن مصادر أميركية وإسرائيلية، أن "مسؤولين كبارًا في الاستخبارات والقيادة السياسية في "إسرائيل"، من بينهم رئيس الموساد دافيد برنياع، ووزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر، وأيضًا رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، أجروا، أخيرًا، لقاءات مكثّفة مع مسؤولين أميركيين في روما وواشنطن". وجاءت اللقاءات، وفقًا للتسريبات، بناءً على طلب ترامب، الذي يريد أن يضع "إسرائيل" في صورة تطوّرات المسار التفاوضي مع إيران، ما يشير إلى احتمال التوصّل قريبًا إلى اتفاق، يكون في الحدّ الأدنى "اتفاقًا إطاريًّا".
وفي ما تُعدّ "إسرائيل" معنيّة بالاتّصال مع الأميركيين، بهدف تقليص الفجوات بين الجانبَين، أكد الوفد "الإسرائيلي" أمام الأميركيين، وفقًا للإعلام العبري، التزام "تل أبيب" بموقفها الرافض لأيّ اتّفاق مؤقّت يسمح لإيران باستئناف أنشطة تخصيب اليورانيوم تحت أي غطاء قانوني أو ديبلوماسي، وهو ما يعكس تصميمها على ربط أيّ تسوية بشروط صارمة تشمل إخراج المنشآت النووية الإيرانية من دائرة النشاط تمامًا.
وذكرت صحيفة "معاريف"، نقلًا عن مصادر "إسرائيلية" رفيعة المستوى، أن الهدف الحقيقي من زيارة برنياع وديرمر وهنغبي إلى واشنطن، لم يكن التشاور الديبلوماسي فقط، بل محاولة "يائسة" لإحباط إعلان أميركي دراماتيكي مرتقب حول التوصّل إلى تفاهم جزئي مع إيران. وفي هذا المجال، يدور الحديث في "إسرائيل" عن تفاهم مؤقت وليس نهائيًا، وهو ما يثير قلق الكيان، الذي يرى في هكذا اتفاق "تأجيلًا للصراع، وليس حلًا له"، قد يمنح إيران فرصةً لتعزيز موقعَيها الإقليمي والنووي، تحت غطاء ديبلوماسي مؤقّت.
لكن ليس كلّ ما يُسرّب مجرّد تهويل أو تسريب عبثي، بل الأرجح أنه استخدام متبادَل للخلاف بين "إسرائيل" والولايات المتحدة، خدمةً لمصالحهما. إذ إن واشنطن تتعامل مع الحديث عن ضربة "إسرائيلية" محتملة بوصفه ورقة ضغط إستراتيجية في يدها خلال المفاوضات مع طهران، خاصةً في ظلّ تصلُّب موقف الأخيرة حول قضايا جوهرية، من مثل التخصيب؛ في ما يُعدّ تداول الأخبار والتسريبات عن احتمال انفلات الوضع من جانب تل أبيب، في حال عدم التوصّل إلى تسوية، تفعيلًا لـ"الضغط العكسي" على إيران. بتعبير آخر، يُراد إيصال رسالة إلى الجمهورية الإسلامية، مفادها تخييرها بين اتفاق "مرضٍ" أو تحمّل عواقب تصعيد لا تستطيع أميركا السيطرة عليه.
أمّا "إسرائيل"، فمن مصلحتها الحفاظ على الغموض، وتطويره أحيانًا إلى حدود التصعيد الإعلامي، لا سيما أنها تدرك أن التلميح إلى الضربة العسكرية لا يؤثّر سلبًا في مكانتها الإستراتيجية، لا بل إنه يعزّزها، باعتبار أن القدرة على خلق حالة من الترقّب والاستنفار، تجعلها تبدو كقوّة رادعة حقيقية، حتّى لو لم تنفّذ تهديداتها فعليًّا. كما إن هذا المناخ المتوتّر قد يسهم، من منظور إسرائيلي، في دفع إيران نحو تقديم تنازلات أكبر في سياق العملية التفاوضية، بما يتيح بالتالي التوصّل إلى اتفاق ذي مفاعيل سلبية محدودة على الكيان العبري.
على أن ما تقدَّم لا يعني بالضرورة أن "إسرائيل" والولايات المتحدة متّفقتان تمامًا على استخدام الخطاب التهديدي. ذلك أن السياق أكثر تعقيدًا، والحسابات ليست متطابقة بالكامل، في ما المعلومات التي تُسرَّب عن احتمال توجيه "إسرائيل" ضربة عسكرية إلى إيران، ربّما تشكّل أيضًا أداة ضغط متبادلة بين "تل أبيب" وواشنطن نفسَيهما، في ما يؤشر إلى تعدّد عوامل التهويل والتوجيه والغموض.
وعلى أي حال، يبقى السؤال عما إذا كانت إيران تصغي إلى التهديدات المرسَلة في اتّجاهها أم أنها تراها مجرّد أداة من أدوات الديبلوماسية المألوفة التي اعتادتها، سواء في ظلّ المفاوضات أو بعيدًا منها؟ يبدو، أقلّه إلى الآن، أن هذه التهديدات ما تزال محصورة في إطار التكتيك الديبلوماسي والتفاوضي، من دون أن يعادل ذلك أن طهران تتجاهلها تمامًا، بل هي تردّ عليها بتهديدات مماثلة، وخطاب تصعيدي لافت، وأحيانًا عبر خطوات عملية على الأرض، تمثّل في واقع الأمر رسالة واضحة موجّهة إلى واشنطن أولًا، ثمّ إلى تل أبيب.
على أنه لا يمكن النظر إلى التهديدات الإسرائيلية باعتبارها دليلًا على تعثُّر المفاوضات، بل ربّما هي مؤشّر إلى أن هذه الأخيرة وصلت إلى مفترق حقيقي، وأن نتائجها بدأت تتبلور، ما يقتضي، من أجل الوصول إلى اتفاق أكثر ملاءمة للمصالح المتضاربة، استخدام كلّ الوسائل المتاحة لدفع الطرف الآخر نحو تقديم تنازلات. وعليه، ومن دون إلغاء الفرضية المقابِلة، قد يكون حديث التهديد دليلًا على نجاح العملية التفاوضية، أكثر ممّا هو على فشلها.