أوراق ثقافية

"النسخ واللصق" في المشهد الثقافي العربي

post-img

منير الإدريسي/ العربي الجديد

ليست الكتابة مجرّد رصٍّ للكلمات، بل هي مرآة حقيقية لروح الكاتب وتجربته الفردية. وعندما تُسرق هذه الكلمات أو يُعاد استخدامها بلا حق، فإنّ الضرر لا يقتصر على الكاتب، بل يمتد إلى القارئ الذي يُخدع بدوره. إنه خداع يشبه ما حدث في رواية أنطونيو سكارميتا "ساعي البريد"، حين راح ماريو يمنح حبيبته مقتطفات من شعر نيرودا مدّعيًا أنّها كلماته، إلى أن اكتشفت والدتها الحقيقة، فانهار كلّ ذلك السحر الذي نسجته الكلمات المسروقة.

لكن الخيانة الأدبية ليست مجرد حادثة عاطفية عابرة، بل جريمة ثقافية تضرب في عمق العمل الإبداعي. فالانتحال، سواء أكان سرقة نصوص أم أفكار، أو حتى اقتباسات بلا إشارة للمصدر، لا يكتفي بتقويض الثقة بين الكاتب وقارئه، بل يشجع على الرداءة ويكافئ السارق على حساب المبدع الحقيقي. وبهذا تُصاب البيئة الأدبية بعطب داخلي قد لا يظهر فورًا، لكنه يتحوّل مع الوقت إلى ظاهرة تُفرغ الثقافة من معناها.

من هذا المنطلق، تكتسب مبادرة الكاتب العُماني سليمان المعمري أهمية استثنائية. فقد كشف عبر جهد شخصي شجاع عن أكثر من 121 حالة انتحال، شملت مقالات ونصوصًا وقصصًا وأبحاثًا. بداية هذه الحملة جاءت حين اكتشف أن قصة فازت بإحدى الجوائز سبق أن قرأها بتوقيع القاص عبد العزيز الفارسي، لتتوالى بعد ذلك الاكتشافات.

أكثر من 121 انتحالًا شمل مقالات ونصوصًا وقصصًا

مع أن الانتحال ظاهرة قديمة، فإن تفاقمها اليوم يعود إلى سهولة السرقة الرقمية وصعوبة التتبّع القانوني. فبضغطة زرّ يمكن نسخ نصّ ونشره تحت اسم جديد، بينما يواجه الكاتب الحقيقي صعوبات في إثبات ملكيته أو حتى اكتشاف الفعل. وتتحول هذه الفجوة إلى أزمة مركبة، لا تكفي فيها الإدانة الأخلاقية، بل تتطلب وعيًا قانونيًا وثقافيًا واسعًا لحماية الملكية الفكرية.

مظاهر الانتحال تتنوّع وتزداد وقاحة. ففي وسائل التواصل، تُنسخ نصوص بكاملها دون إشارة لأصحابها. أما في الأوساط الأكاديمية والنقدية، فتظهر سرقات في كتب وأبحاث ومقالات. الباحث المغربي عبد العزيز بومسهولي، على سبيل المثال، تعرض لسرقة فصل كامل من كتابه "الشعر، الوجود، والزمان" نُشر دون إذنه في مجلة "لوغوس" عام 2012، إضافة إلى سرقة فكرية من كتابه "نهاية الأخلاق". وقد رفض اعتبار هذه الأفعال "توارد خواطر"، مؤكّدًا أنها تعكس أزمة أخلاقية وهيكلية في حماية الحقوق الفكرية.

في واقعة أخرى أثارت جدلًا واسعًا، كشفت الشاعرة فاطما خضر عبر منشور فيسبوكي عن دراسة نقدية بعنوان "الموجة الجديدة في الشعر السوري" لباحثة معروفة، وصفتها بأنها "قص ولصق" بلا تحليل أو جهد نقدي، بل وشملت نسب قصائد وتحليلات كاملة إلى شاعرات لا علاقة لهن بالمحتوى، بما فيها قصيدة "أغار" لأنسي الحاج، منتحَلة ومنسوبة لشاعرة سورية. كما شملت السرقة مقالات ومقدمات نقدية لكتّاب بارزين مثل جابر عصفور وعبد الله السمطي.

لم تسلم الترجمات الأدبية أيضًا، حيث انتشرت نسخ مسروقة تحمل أسماء مترجمين وهميين، أبرزهم "مصطفى بن رزق"، ونُشرت عبر دور نشر كويتية معروفة، وصولًا إلى سرقة رواية "آن في المرتفعات الخضراء" من ناشر يملك حقوقها الأصلية.

غير أن الأخطر من ذلك كله هو تفشي الانتحال في الأوساط الأكاديمية، بما يشمل طلاب دراسات عليا، بل وحتى بعض رؤساء الجامعات وعمدائها، ما يجعل من الظاهرة تهديدًا للمعرفة المؤسّسة على الجهد والابتكار.

في زمن تتسارع فيه المعلومات وتنتشر النصوص بلا ضوابط، يصبح الانتحال أشبه بفيروس خفي يُفقد الثقافة صدقيّتها، ويطمس أصواتًا كان يُفترض أن تكون في الواجهة. إنها أزمة لا تُحل بالفضح وحده، بل تتطلب بنية حماية قانونية وأخلاقية، ووعيًا عامًا يثمّن الجهد، ويرفض التسلق على أكتاف الآخرين.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد